وقرأ طلحة «اكتتبها» مبنيا للمفعول والأصل اكتتبها له كاتب فحذف اللام وأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ثم حذف الفاعل لعدم تعلق الغرض العلمي بخصوصه فبنى الفعل للمفعول وأسند للضمير فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان منصوبا بارزا، وهذا مبني على جواز إقامة المفعول الغير الصريح مقام الفاعل مع وجود الصريح وهو هنا ضمير الأساطير وهو الذي ارتضاه الرضي وغيره، وجمهور البصريين على عدم الجواز وتعين المفعول الصريح للإقامة فيقال عندهم: اكتتبته، وعليه قول الفرزدق:
ومنا الذي اختير الرجال سماحة ... وجودا إذا ذهب الرياح الزعازع
بنصب الرجال وعلى الأول كان حق التركيب اختيره الرجال بالرفع فإن الأصل اختاره من الرجال مختار وظاهر أنه إذا عمل فيه ما تقدم يصير إلى ما ذكر فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أي تلقى تلك الأساطير عليه بعد اكتتابها ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب لكونه أميا لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة فالإملاء الإلقاء للحفظ بعد الكتابة استعارة لا الإلقاء للكتابة كما هو المعروف حتى يقال: إن الظاهر العكس بأن يقال: أمليت عليه فهو يكتتبها أو المعنى أراد اكتتابها أو طلب كتابتها فأمليت عليه أي عليه نفسه أو على كاتبه فالإملاء حينئذ باق على ظاهره. وقرأ طلحة وعيسى تتلى بالتاء بدل الميم بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي دائما أو قبل انتشار الناس وحين يأتون إلى مساكنهم وعنوا بذلك أنها تملى عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال، وهذه جراءة عظيمة منهم قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون، وعن الحسن أن اكْتَتَبَها إلخ من قول الله عزّ وجلّ يكذبهم به، وإنما يستقيم أن لو افتتحت الهمزة في اكْتَتَبَها للاستفهام الذي هو في معنى الإنكار، ووجهه أن يكون نحو قول حضرمي بن عامر وقد خرج يتحدث في مجلس قوم وهو في حلتين له فقال جزء بن سنان بن مؤلة: والله إن حضرميا لجذل بموت أخيه إن ورثه:
أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث زودا (١) شصايصا نبلا
من أبيات، وحق للحسن على ما في الكشاف أن يقف على الأولين قُلْ لهم ردا عليهم وتحقيقا للحق أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وصفه تعالى بإحاطة علمه بجميع المعلومات الخفية والجلية المعلومة من باب أولى للإيذان بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر مع ما فيه من التعريض بمجازاتهم بجناياتهم المحكية التي هي من جملة معلوماته تعالى أي ليس ذلك كما تزعمون بل هو أمر سماوي أنزله الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا تحوم حوله الافهام حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته وأخبركم بمغيبات مستقبلة وأمور مكنونة لا يهتدي إليها ولا يوقف إلا بتوفيق الله تعالى العليم الخبير عليها، وإذا أرادوا ببكرة وأصيلا خفية عن الناس ازداد موقع السر حسنا، وأما التذييل بقوله تعالى:
إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فهو للتنبيه على أنهم استوجبوا العذاب على ما هم عليه من الجنايات المحكية لكن أخر عنهم لما أنه سبحانه أزلا وأبدا مستمر على المغفرة والرحمة المستتبعتين للتأخير فكأنه قيل إنه جل وعلا متصف بالمغفرة والرحمة على الاستمرار فلذلك لا يعجل عقوبتكم على ما أنتم عليه مع كمال استيجابه إياها وغاية قدرته سبحانه عليها ولولا ذلك لصب عليكم العذاب صبا، وذكر الطيبي أن فيه على هذا الوجه معنى التعجب كما في قوله تعالى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الفرقان: ٢١] .
وجوز أن يكون الكلام كناية عن الاقتدار العظيم على عقوبتهم لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على
(١) الشصائص جمع شصوص وهي القليلة اللبن والنبلا جمع نبيل ككرم في كريم الصغار وتطلق على الكبار اهـ منه.