ومثله قوله تعالى: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الإنسان: ٢١] ومن هذا وأمثاله اختار بعضهم كون المبالغة راجعة إلى الكيفية على ما سمعت عن البحر، وقال بعض المحققين: إن طَهُوراً هنا اسم لما يتطهر به كما في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «التراب طهور المؤمن»
وفعول كما قال الأزهري في كتاب الزاهر يكون اسم آلة لما يفعل به الشيء كغسول ووضوء وفطور وسحور إلى غير ذلك كما يكون صفة بمعنى فاعل كأكول أو مفعول كصبوب بمعنى مصبوب واسم جنس كذنوب ومصدرا وهو نادر كقبول فيفيد التطهير للغير وضعا، ويمكن حمل ما روي عن ثعلب على هذا، واعتبار كونه طاهرا في نفسه لأن كونه مطهرا للغير فرع ذلك، وجعل على هذا بدلا من ماء أو عطف بيان له لا نعتا فيكون التركيب نحو أرسلت إليك ماء وضوءا.
وأنت تعلم أن المتبادر فيما نحن فيه كونه نعتا فإن أمكن ذلك على هذا الوجه بنوع تأويل كان أبعد عن القيل والقال، وحكى سيبويه أن طهورا جاء مصدر التطهر في قولهم: تطهرت طهورا حسنا، وذكر أن منه
قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة إلا بطهور»
وحمل ما في الآية على ذلك مما لا ينبغي. وأيا ما كان ففي توصيف الماء به إعظام المنة كما لا يخفى لِنُحْيِيَ بِهِ أي بما أنزلنا من الماء الطهور بَلْدَةً مَيْتاً ليس فيها نبات وذلك بإنبات النبات به والمراد بالبلدة الأرض كما في قوله:
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها
وجوز أن يراد بها معناها المعروف وتنكيرها للتنويع، وتذكير صفتها لأنها بمعنى البلد أو لأن مَيْتاً من أمثلة المبالغة التي لا تشبه المضارع في الحركات والسكنات وهو يدل على الثبوت فأجري مجرى الجوامد، ولام لِنُحْيِيَ متعلق بأنزلنا وتعلقه بطهورا ليس بشيء. وقرأ عيسى وأبو جعفر «ميّتا» بالتشديد، قال أبو حيان: ورجح الجمهور التخفيف لأنه يماثل فعلا من المصادر فكما وصف المذكر والمؤنث بالمصدر فكذلك بما أشبهه بخلاف المشدد فإنه يماثل فاعلا من حيث قبوله للتاء إلا فيما خص المؤنث نحو طامث.
وَنُسْقِيَهُ أي ذلك الماء الطهور وعند جريانه في الأودية أو اجتماعه في الحياض والمناقع والآبار مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً أي أصل البوادي الذين يعيشون بالحياء، ولذلك نكر الأنعام والأناسي فالتنكير للتنويع.
وتخصيص هذا النوع بالذكر لأن أهل القرى والأمصار يقيمون بقرب الأنهار والمنابع فبهم وبما لهم من الأنعام غنية عن سقي السماء وسائر الحيوانات تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب غالبا، ومساق الآيات الكريمة كما هو للدلالة على عظم القدرة كذلك هو لتعداد أنواع النعمة فالأنعام حيث كانت قنية للإنسان وعامة منافعهم ومعايشهم منوطة بها قدم سقيها على سقيهم كما قدم عليها إحياء الأرض فإنه سبب لحياتها وتعيشها فالتقديم من قبيل تقديم الأسباب على المسببات، وجوز أن يكون تقديم ما ذكر على سقي الأناسي لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقي أرضهم ومواشيهم لم يعدموا سقياهم، وحاصله أنه من باب تقديم ما هو الأهم والأصل في باب الامتنان، وذكر سقي الأناسي على هذا إرداف وتتميم للاستيعاب، ومن تبعيضية أو بيانية وكَثِيراً صفة للمتعاطفين لا على البدل.
وقرأ عبد الله وأبو حيوة وابن أبي عبلة والأعمش وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما «ونسقيه» بفتح النون ورويت عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأسقي وسقي لغتان، وقيل: أسقاه بمعنى جعل السقيا له وهيأها، وأَناسِيَّ جمع إنسان عند سيبويه وأصله أناسين فقلبت نونه ياء وأدغمت فيما قبلها.
وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أنه جمع إنسي، قال في البحر: والقياس أناسية كما قالوا في مهلبي مهالبة.