للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يكون وحاشاه ممن تنزل عليه الشياطين وإبطال لقولهم في القرآن إنه من قبيل ما يلقى إلى الكهنة، وفي البحر ما هو ظاهر في أنه على معنى القول أي قل يا محمد هل أنبئكم إلخ وهو مسوق للتنزيه والإبطال المذكورين، وقوله تعالى:

وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ مسوق لتنزيهه عليه الصلاة والسلام أيضا عن أن يكون وحاشاه من الشعراء وإبطال زعم الكفرة أن القرآن من قبيل الشعر. والمتبادر منه الكلام المنظوم المقفى ولذلك قال كثير من المفسرين: إنهم رموه عليه الصلاة والسلام بكونه آتيا بشعر منظوم مقفى حتى تأولوا عليه ما جاء في القرآن مما يكون موزونا بأدنى تصرف كقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ [الإسراء: ٣٣] ويكون بهذا الاعتبار شطرا من الطويل وكقوله سبحانه:

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى [القصص: ٧٦] ويكون من (١) المديد، وكقوله عز وجل: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الأحقاف: ٢٥] ويكون من البسيط، وقوله تبارك وتعالى: أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ [هود: ٦٠] ويكون من الوافر، وقوله جل وعلا: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: ٥٦] ويكون من الكامل إلى غير ذلك مما استخرجوه منه من سائر البحور، وقد استخرجوا منهما يشبه البيت التام كقوله تعالى: وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة: ١٤] .

وتعقب ذلك بأنهم لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به صلّى الله عليه وسلّم إذ لا يخفى على الأغبياء من العجم فضلا عن بلغاء العرب إن القرآن الذي جاء به صلّى الله عليه وسلّم ليس على أساليب الشعر وهم ما قالوا فيه عليه الصلاة والسلام شاعر إلا لما جاءهم بالقرآن واستخراج ما ذكر ونحوه منه ليس إلا لمزيد فصاحته وسلاسته ولم يؤت به لقصد النظم. ولو اعتبر في كون الكلام شعرا إمكان استخراج كلام منظوم منه لكان كثير من الأطفال شعرا. فإن كثيرا من كلامهم يمكن فيه ذلك، والظاهر أنهم إنما قصدوا رميه صلّى الله تعالى عليه وسلّم بأنه وحاشاه ثم حاشاه يأتي بكلام مخيل لا حقيقة له، ولما كان ذلك غالبا في الشعراء الذين يأتون بالمنظوم من الكلام عبروا عنه عليه الصلاة والسلام بشاعر وعما جاء به بالشعر، ومعنى الآية والشعراء يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن الحائرون فيما يأتون وما يذرون ولا يستمرون على وتيرة واحدة في الأفعال والأقوال والأحوال لا غيرهم من أهل الرشد المهتدين إلى طريق الحق الثابتين عليه، والحصر مستفاد من بناء يَتَّبِعُهُمُ إلخ على الشعراء عند الزمخشري كما قرره في تفسير قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: ١٥] وقوله سبحانه: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [المزمل: ٢٠] ومن لا يرى الحصر في مثل هذا التركيب يأخذه من الوصف المناسب أعني أن الغواية جعلت علة للاتباع فإذا انتفت انتفى وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون وتقرير له. والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية للإشارة إلى أن حالهم من الجلاء والظهور بحيث لا يختص برؤيته راء دون راء. وضمير الجمع للشعراء أي ألم تر أن الشعراء في كل واد من أودية القيل والقال وفي كل شعب من شعاب الوهم والخيال وفي كل مسلك من مسالك الغي والضلال يهيمون على وجوههم لا يهتدون إلى سبيل معين من السبل بل يتحيرون في سباسب الغواية والسفاهة ويتيهون في تيه الصلف والوقاحة ديدنهم تمزيق الأعراض المحمية والقدح في الأنساب الطاهرة السنية والنسيب بالحرم والغزل والابتهار والتردد بين طرفي الإفراط والتفريط في المدح والهجاء وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ من الأفاعيل غير مكترثين بما يستتبعه من اللوم فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك ويلحق بهم وينتظم في سلكهم من تنزهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة


(١) قوله من المديد كذا بخطه وهو من الخفيف كما لا يخفى اه.

<<  <  ج: ص:  >  >>