بشدة محبة المؤمنين شدتها في المحل وهو رسوخها فيهم وعدم زوالها عنهم بحال لا كمحبة المشركين لآلهتهم حيث يعدلون عنها إلى الله تعالى عند الشدائد ويتبرؤون منها عند معاينة الأهوال ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره وربما أكلوه- كما يحكى: أن باهلة كانت لهم أصنام من حيس فجاعوا في قحط أصابهم فأكلوها- ولله أبوهم فإنه لم ينتفع مشرك بآلهته كانتفاع هؤلاء بها فإنهم ذاقوا حلاوة الكفر، وليس المراد من شدة المحبة شدتها. وقوتها في نفسها ليرد أنا نرى الكفار يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أكثر المؤمنين فكيف يقال: إن محبتهم أشد من محبتهم ومن هذا ظهر وجه اختيار- أشد حبا- على أحب إذ ليس المراد الزيادة في أصل الفعل بل الرسوخ والثبات وهو ملاك الأمر ولهذا نزل فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] وكان أحب الأعمال إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أدومها، وقال العلامة: عدل عن أحب إلى أشد- لأنه شاع في الأشد محبوبية- فعدل عنه احترازا عن اللبس، وقيل: إن أحب أكثر من حب، فلو صيغ منه أفعل لتوهم أنه من المزيد.
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لو يعلم هؤلاء الَّذِينَ ظَلَمُوا بالاتخاذ المذكور، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن ذلك- الاتخاذ- ظلم عظيم، وأن اتصاف المتخذين به أمر معلوم مشهور حيث عبر عنه بمطلق الظلم، والموصول والصلة للاشعار بسبب- رؤيتهم العذاب- المفهومة من قوله سبحانه:
إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أي عاينوا الْعَذابَ المعد لهم وأبصروه يوم القيامة، وأورد صيغة المستقبل بعد لَوْ وإِذْ المختصين بالماضي لتحقق مدلوله فيكون ماضيا تأويلا مستقبلا تحقيقا فروعي الجهتان.
أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ساد مسد مفعولي يرى، وجواب لَوْ محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان، أي لوقعوا من الحسرة والندامة فيما لا يكاد يوصف، وقيل: هو متعلق الجواب- والمفعولان محذوفان- والتقدير وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أندادهم لا تنفع لعلموا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً لا ينفع ولا يضر غيره. وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب «ترى» على أن الخطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب، فالجواب حينئذ- لرأيت أمرا لا يوصف من الهول والفظاعة- وابن عامر «إذ يرون» بالبناء للمفعول، ويعقوب «إن» بالكسر، وكذا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ على الاستئناف أو إضمار القول- أي قائلين ذلك- وفائدة هذه الجملة المبالغة في تهويل الخطب وتفظيع الأمر، فإن اختصاص الْقُوَّةَ به تعالى لا يوجب شدة «العذاب» لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا بدل من إِذْ يَرَوْنَ مطلقا وجاز الفصل بين البدل والمبدل منه بالجواب ومتعلقة لطول البدل، وجوّز أن يكون ظرفا ل شَدِيدُ الْعَذابِ أو مفعولا- لاذكروا- وزعم بعضهم أنه بدل من مفعول «ترى» على قراءة الخطاب، كما أن إِذْ يَرَوْنَ بدل منه أيضا أَنَّ الْقُوَّةَ في موضع بدل الاشتمال من الْعَذابَ ولا يخفى أن هذا يقتضي جواز تعدد البدل ولم يعثر عليه في شيء من كتب النحو، وأيضا يرد عليه أن المبدل منه في بدل الاشتمال يجب أن يكون متقاضيا للبدل دالا عليه إجمالا، وأن يكون البدل مشتملا على ضمير المبدل منه- وكلاهما مفقودان- والمعنى «إذ تبرأ» الرؤساء المتبعون مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أي المرءوسين بقولهم: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص: ٦٣] وقرأ مجاهد «الأول» على البناء للفاعل «والثاني» على البناء للمفعول، أي تبرأ الأتباع وانفصلوا عن متبوعيهم، وندموا على عبادتهم وَرَأَوُا الْعَذابَ حال من- الأتباع والمتبوعين- كما في لقيته راكبين- أي رائين له- فالواو- للحال، وقد مضمرة، وقيل: عطف على تَبَرَّأَ وفيه أنه يؤدي إلى إبدال وَرَأَوُا الْعَذابَ من إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ وليس فيه كثير فائدة لأن فاعل الفعلين- وإن كانا متغايرين- إلا أن تهويل الوقت باعتبار ما وقع فيه- وهو رؤية العذاب- ولأن الحقيق بالاستفظاع- هو تبرؤهم حال رؤية العذاب- لا هو نفسه،