فَما آتانِيَ اللَّهُ أي من النبوة والملك الذي لا غاية وراءه خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أي من المال الذي من جملته ما جئتم به، وقيل: عنى بما آتاه المال لأنه المناسب للمفضل عليه والأول أولى لأنه أبلغ، والجملة تعليل للإنكار والكلام كناية عن عدم القبول لهديتهم، وليس المراد منه الافتخار بما أوتيه فكأنه قيل: أنكر إمدادكم إياي بمال لأن ما عندي خير منه فلا حاجة لي إلى هديتكم ولا وقع لها عندي، والظاهر أن الخطاب المذكور كان أول ما جاؤوه كما يؤذن به قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ إلخ. ولعل ذلك لمزيد حرصه على إرشادهم إلى الحق، وقيل: لعله عليه السلام قال لهم ما ذكر بعد أن جرى بينهم وبينه ما جرى مما في خبر وهب وغيره، واستدل بالآية على استحباب هدايا المشركين.
والظاهر أن الأمر كذلك إذا كان في الرد مصلحة دينية لا مطلقا، وإنما لم يقل: وما آتاني الله خير مما آتاكم لتكون الجملة حالا لما أن مثل هذه الحال وهي الحال المقررة للإشكال يجب أن تكون معلومة بخلاف العلة وهي هنا ليست كذلك، وقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ إضراب عما ذكر من إنكار الإمداد بالمال وتعليله إلى بيان ما حملهم عليه من قياس حاله عليه السلام على حالهم وهو قصور همتهم على الدنيا والزيادة فيها فالمعنى أنتم تفرحون بما يهدى إليكم لقصور همتكم على الدنيا وحبكم الزيادة فيها، ففي ذلك من الحط عليهم ما لا يخفى، والهدية مضافة إلى المهدي إليه وهي تضاف إلى ذلك كما تضاف إلى المهدي أو إضراب عن ذلك إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم التي أهدوها إليه عليه السلام فرح افتخار وامتنان واعتداد بها، وفائدة الإضراب التنبيه على أن إمداده عليه السلام بالمال منكر قبيح، وعد ذلك مع أنه لا قدر له عنده عليه السلام مما يتنافس فيه المتنافسون أقبح والتوبيخ به أدخل، قيل: وينبىء عن اعتدادهم بتلك الهدية التنكير في قول بلقيس: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ بعد عدها إياه عليه السلام ملكا عظيما.
وكذا ما تقدم في خبر وهب وغيره من حديث الحق والجزعة وتغيير زي الغلمان والجواري وغير ذلك، وقيل:
فرحهم بما أهدوه إليه عليه السلام من حيث توقعهم به ما هو أزيد منه فإن الهدايا للعظماء قد تفيد ما هو أزيد منها مالا أو غيره كمنع تخريب ديارهم هنا، وقيل: الكلام كناية عن الرد، والمعنى أنتم من حقكم أن تفرحوا بأخذ الهدية لا أنا فخذوها وافرحوا وهو معنى لطيف إلا أن فيه خفاء ارْجِعْ أمر للرسول ولم يجمع الضمير كما جمعه فيما تقدم من قوله: أَتُمِدُّونَنِ إلخ لاختصاص الرجوع به بخلاف الإمداد نحوه، وقيل: هو أمر للهدهد محملا كتابا آخر وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن زهير بن زهير.
وتعقب بأنه ضعيف دراية ورواية وقرأ عبد الله «ارجعوا» على أنه أمر للمرسلين والفعل هنا لازم أي انقلب وانصرف إِلَيْهِمْ أي إلى بلقيس وقومها فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ أي فو الله لنأتينهم بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها أي لا طافة لهم بمقاومتها ولا قدرة لهم على مقابلتها وأصل القبل المقابلة فجعل مجازا أو كناية عن الطاقة والقدرة عليها. وقرأ عبد الله «بهم» وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ عطف على جواب القسم مِنْها أي من سبأ أَذِلَّةً أي حال كونهم أذلة بعد ما كانوا فيه من العز والتمكين، وفي جمع القلة تأكيد لذلتهم، وقوله تعالى: وَهُمْ صاغِرُونَ حال أخرى، والصغار وإن كان بمعنى الذل إلا أن المراد به هنا وقوعهم في أسر واستعباد فيفيد الكلام أن إخراجهم بطريق الأسر لا بطريق الإجلاء وعدم وقوع جواب القسم لأنه كان معلقا بشرط قد حذف عند الحكاية ثقة بدلالة الحال عليه كأنه قيل: ارجع إليهم فليأتوني مسلمين وإلا فلنأتنيهم إلخ.