عند من لا يراه لتخصصها بالإضافة هنا، أو على أنه مفعول له بتقدير نسوق إليه ذلك رزقا. وحاصل الرد أنه لا وجه لخوف من التخطف إن أمنوا فإنهم لا يخافون منه وهم عبدة أصنام فكيف يخافون إذا أمنوا وضموا حرمة الإيمان إلى حرمة المقام وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ جهلة لا يتفطنون ولا يتفكرون ليعلموا ذلك فهو متعلق بقوله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ إلخ.
وقيل: هو متعلق بقوله سبحانه: من لدنا أي قليل منهم يتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله عز وجل إذ لو علموا لما خافوا غيره، والأول أظهر، والكلام عليه أبلغ في الذم، وقرأ المنقري «نتخطف» بالرفع كما قرىء في قوله تعالى:
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النساء: ٧٨] برفع يدرك وخرج بأنه بتقدير فنحن نتخطف وهو تخريج شذوذ.
وقرأ نافع وجماعة عن يعقوب وأبو حاتم عن عاصم «تجبى» بتاء التأنيث، وقرىء «تجني» بالنون من الجني وهو قطع الثمرة وتعديته بإلى كقولك يجني إلى فيه ويجني إلى الخافة (١) وقرأ أبان بن تغلب عن عاصم «ثمرات» بضم الثاء والميم، وقرأ بعضهم «ثمرات» بفتح الثاء وإسكان الميم، ثم إنه تعالى بعد أن رد عليهم خوفهم من الناس بين أنهم أحقاء بالخوف من بأس الله تعالى بقوله: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أي وكثيرا من أهل قرية كانت حالهم كحال هؤلاء في الأمن وخفض العيش والدعة حتى بطروا واغتروا ولم يقوموا بحق النعمة فدمرنا عليهم وخربنا ديارهم فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ التي تمرون عليها في أسفاركم كحجر ثمود خاوية بما ظلموا حال كونها.
لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد تدميرهم إِلَّا قَلِيلًا أي إلا زمانا قليلا إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم أو إلا سكنا قليلا وقلته باعتبار قلة الساكنين فكأنه قيل: لم يسكنها من بعدهم إلا قليل من الناس.
وجوز أن يكون الاستثناء من المساكن أي إلا قليلا منها سكن وفيه بعد، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر ذات أيديهم، وفي الكشاف أي تركناها على حال لا يسكنها أحد أو خربناها وسويناها بالأرض وهو مشير إلى أن الوراثة إما مجرد انتقالها من أصحابها وإما إلحاقها بما خلقه الله تعالى في البدء فكأنه رجع إلى أصله ودخل في عداد خالص ملك الله تعالى على ما كان أولا وهذا معنى الإرث، وانتصاب معيشتها على التمييز على مذهب الكوفيين، أو مشبه بالمفعول به على مذهب بعضهم، أو مفعول به على تضمين بطرت معنى فعل متعد أي كفرت معيشتها ولم ترع حقها على مذهب أكثر البصريين أو على إسقاط (في) أي في معيشتها على مذهب الأخفش، أو على الظرف نحو جئت خفوق النجم على قول الزجاج: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بيان للعناية الربانية إثر بيان إهلاك القرى المذكورة أي وما صح وما استقام أو ما كان في حكمه الماضي وقضائه السابق أن يهلك القرى قبل الإنذار بل كانت سنته عز وجل أن لا يهلكها حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي في أصلها وكبيرتها التي ترجع تلك القرى إليها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا الناطقة بالحق ويدعوهم إليه بالترغيب والترهيب، وإنما لم يهلكهم سبحانه حتى يبعث إليهم رسولا لإلزام الحجة وقطع المعذرة بأن يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك، وإنما كان البعث في أم القرى لأن في أهل البلدة الكبيرة وكرسي المملكة ومحل الأحكام فطنة وكيسا فهم أقبل للدعوة وأشرف.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة أن أم القرى مكة والرسول محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم
(١) قوله إلى الخافة هي خريطة من أدم يشار فيها العسل انتهى منه.