سادا مسد المفعولين واقتضى المعنى أن يقال أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا بجعل تركهم مفعولا أولا ولقولهم مفعولا ثانيا فلا يحتاج إليه لأنه إن جرينا مع اللفظ كان أَنْ يُتْرَكُوا سادا مسد المفعولين فلا يكون فيه مفعول ثان فاصل بين الحال وذيها وإن جرينا مع المعنى واعتبرنا الكلام مجردا عن أن المصدرية وجيء به كما سمعت كانت الحال متصلة بذيها، وقيل: يجوز أن يكون المفعول الأول لحسب محذوفا أي أحسب الناس أنفسهم وأَنْ يُتْرَكُوا في موضع المفعول الثاني على أنه في تأويل مصدر وهو في تأويل اسم المفعول أي متروكين وهم لا يفتنون في موضع الحال كما تقدم وأن يؤمنوا بتقدير لأن يؤمنوا متعلق بيتركوا فكأنه قيل: أحسب الناس أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم آمنا، وقيل: إن هذا المعنى حاصل على تقدير سد أَنْ يُتْرَكُوا مسد المفعولين فتأمل فيه وفيما قبله، ولعل الأبعد عن التكلف ما ذكرناه أولا، والمراد إنكار حسبانهم أن يتركوا غير مفتونين بمجرد أن يقولوا آمنا واستبعاد له وتحقيق أنه تعالى يمتحنهم بمشاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وفنون المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والراسخ في الدين من المتزلزل فيه فيعامل كل بما يقتضيه ويجازيهم سبحانه بحسب مراتب أعمالهم فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في النار.
وذكر بعضهم أنه سبحانه لو أثاب المؤمن يوم القيامة من غير أن يفتنه في الدنيا لقال الكافر المعذب: ربي لو أنك كنت فتنته في الدنيا لكفر مثلي فإيمانه الذي تثيبه عليه مما لا يستحق الثواب له فبالفتنة يلجم الكافر عن مثل هذا القول ويعوض المؤمن بدلها ما يعوض بحيث يتمنى لو كانت فتنته أعظم مما كانت والآية على ما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الشعبي نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار ولا إسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنزلت فيكم آية كذا وكذا فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله تعالى فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل:
١١٠] .
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال سمعت ابن عمير وغيره يقولون: كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه ويجعل على عمار درعا من حديد في اليوم الصائف وطعن في فرج أمه برمح ففي ذلك نزلت أَحَسِبَ النَّاسُ إلخ، وقيل: نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب قتل ببدر فجزع عليه أبواه وامرأته «و
قال فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة»
، وقيل: نزلت في عياش أخي أبي جهل غدر وعذب ليرتد كما سيأتي خبره إن شاء الله تعالى، وفسر الناس بمن نزلت فيهم الآية، وقال الحسن الناس هنا المنافقون.
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حال من الناس أو من ضمير يفتنون، وعلى الأول يكون علة لإنكار الحسبان أي أحسبوا ذلك وقد علموا أن سنة الله تعالى على خلافه ولن تجد لسنة الله تعالى تبديلا، وعلى الثاني بيانا لأنه لا وجه لتخصيصهم بعدم الافتنان، وحاصله أنه على الأول تنبيه على الخطأ، وعلى الثاني تخطئة، والمراد بالذين من قبلهم المؤمنون أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أصابهم من ضروب الفتن والمحن ما أصابهم فصبروا وعضوا على دينهم بالنواجذ كما يعرب عنه قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا [آل عمران: ١٤٦] الآيات.