القائلون باستحالة إعادة المعدوم، والرد عليهم بعد تسليم أن ما نحن فيه من إعادة المعدوم وليس من جمع المتفرق بإبطال ما استدلوا به على الاستحالة، وقد تكفلت الكتب الكلامية بذلك، وأما الرد عليهم بهذه الآيات ونحوها فلما فيها من الإشارة إلى تزييف أدلة الاستحالة فتدبر يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ جملة مستأنفة لبيان ما بعد النشأة الآخرة أي يعذب بعد النشأة الآخرة من يشاء تعذيبه وهم المنكرون لها وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته وهم المقرون بها وَإِلَيْهِ سبحانه لا إلى غيره تُقْلَبُونَ أي تردون، والجملة تقرير للإعادة وتوطئة لما بعد، وتقديم التعذيب لما أن الترهيب أنسب بالمقام من الترغيب وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ له تعالى عن إجراء حكمه وقضائه عليكم فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي بالهرب في الأرض الفسيحة أو الهبوط في مكان بعيد الغور والعمق بحيث لا يوصل إليه فيها ولا بالتحصن في السماء التي هي أفسح منها أو التي هي أمنع لمن حل فيها عن أن
تناله أيدي الحوادث فيما ترون لو استطعتم الرقي إليها كما في قوله تعالى: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرحمن:
٣٣] أو البروج والقلاع المرتفعة في جهتها على ما قيل، وهو خلاف الظاهر، وقال ابن زيد والفراء: إن فِي السَّماءِ صلة موصول محذوف هو مبتدأ محذوف الخبر والتقدير ولا من في السماء بمعجز، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، وضعف بأن فيه حذف الموصول مع بقاء صلته وهو لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر كقول حسان:
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
على ما هو الظاهر فيه، على أن ابن مالك اشترط في جوازه عطف الموصول المحذوف على موصول آخر مذكور كما في هذا البيت، وبأن فيه حذف الخبر أيضا مع عدم الحاجة إليه، ولهذا جعل بعضهم الموصول معطوفا على أنتم ولم يجعله مبتدأ محذوف الخبر ليكون العطف من عطف الجملة على الجملة، وزعم بعضهم أن الموصول محذوف في موضعين وأنه مفعول به لمعجزين وقال: التقدير وما أنتم بمعجزين من في الأرض أي من الإنس والجن ولا من في السماء أي من الملائكة عليهم السلام فكيف تعجزون الله عز وجل، ولا يخفى أن هذا في غاية البعد ولا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى.
وقيل ليس في الآية حذف أصلا، والسماء هي المظلة إلا أن أَنْتُمْ خطاب لجميع العقلاء فيدخل فيهم الملائكة ويكون السماء بالنظر إليهم والأرض بالنظر إلى غيرهم من الإنس والجن وهو كما ترى.
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يحرسكم من بلاء أرضي أو سماوي وَلا نَصِيرٍ يدفعه عنكم وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بدلائله التكوينية والتنزيلية الدالة على ذاته وصفاته وأفعاله، فيدخل فيها النشأة الأولى الدالة على صحة البعث والآيات الناطقة به دخولا أوليا، وتخصيصها بدلائل وحدانيته تعالى لا يناسب المقام وَلِقائِهِ الذي تنطق به تلك الآيات أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الكفر بآياته تعالى ولقائه عز وجل يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي ييأسون منها يوم القيامة على أنه وعيد، وإلا فالكافر لا يوصف باليأس في الدنيا لأنه لا رجاء له، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق، وجوز أن يكون المراد إظهار مباينة حالهم وحال المؤمنين لأن حال المؤمن الرجاء والخشية وحال الكافر الاغترار واليأس فهو لا يخطر بباله رجاء ولا خوفا إن أخطر المخوف بباله كان حاله اليأس بدل الخوف وإن أخطر المرجو كان حاله الاغترار بدل الرجاء، فكأنه تنصيص على كفرهم وتعريف لحالهم، وأن يكون الكلام على الاستعارة.