الإمام فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بأن تلهيكم بلذاتها عن الطاعات وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي الشيطان كما روي عن ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، ومجاهد والضحاك بأن يحملكم على المعاصي بتزيينها لكم ويرجيكم التوبة والمغفرة منه تعالى أو يذكر لكم أنها لا تضر من سبق في علم الله تعالى موته على الإيمان وأن تركها لا ينفع من سبق في العلم موته على الكفر، وعن أبي عبيدة كل شيء غرك حتى تعصي الله تعالى وتترك ما أمرك سبحانه به فهو غرور شيطانا أو غيره، وإلى ذلك ذهب الراغب قال: الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان.
وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين وبالدنيا لما قيل: الدنيا تغر وتضر وتمر، وأصل الغرور من غر فلانا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد والمراد به الخداع، والظاهر أن بِاللَّهِ صلة يَغُرَّنَّكُمْ أي لا يخدعنكم بذكر شيء من شؤونه تعالى يجسركم على معاصيه سبحانه.
وجوز أن يكون قسما وفيه بعد، وقرأ ابن أبي إسحاق، وابن أبي عبلة، ويعقوب، «تغرنكم» بالنون الخفيفة، وقرأ سمال بن حرب، وأبو حيوة «الغرور» بضم الغين وهو مصدر والكلام من باب جد جده، ويمكن تفسيره بالشيطان يجعله نفس الغرور مبالغة إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلخ،
أخرج ابن المنذر عن عكرمة أن رجلا يقال له الوارث بن عمرو جاء إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا محمد متى قيام الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ وقد تركت امرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت، فنزلت هذه الآية، وذكر نحوه محيي السنة البغوي
، والواحدي، والثعلبي فهو نظرا إلى سبب النزول جواب لسؤال محقق ونظرا إلى ما قبلها من الآي جواب لسؤال مقدر كأن قائلا يقول: متى هذا اليوم الذي ذكر من شأنه ما ذكر؟ فقيل إن الله، ولم يقل إن علم الساعة عند الله مع أنه أخصر لأن اسم الله سبحانه أحق بالتقديم ولأن تقديمه وبناء الخبر عليه يفيد الحصر كما قرّره الطيبي مع ما فيه من مزية تكرر الإسناد، وتقديم الظرف يفيد الاختصاص أيضا بل لفظ عند كذلك لأنها تفيد حفظه بحيث لا يوصل إليه فيفيد الكلام من أوجه اختصاص علم وقت القيامة بالله عزّ وجلّ، وقوله تعالى: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي في إبانه من غير تقديم ولا تأخير في بلد لا يتجاوزه به وبمقدار تقتضيه الحكمة، الظاهر أنه عطف على الجملة الظرفية المبنية على الاسم الجليل على عكس قوله تعالى: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ [المؤمنون: ٢١] فيكون خبرا مبنيا على الاسم الجليل مثل المعطوف عليه فيفيد الكلام الاختصاص أيضا والمقصود تقييدات التنزيل الراجعة إلى العلم لا محض القدرة على التنزيل إذ لا شبهة فيه فيرجع الاختصاص إلى العلم بزمانه ومكانه ومقداره كما يشير إلى ذلك كلام الكشف، وقال العلامة الطيبي في شرح الكشاف: دلالة هذه الجملة على علم الغيب من حيث دلالة المقدور المحكم المتقن على العلم الشامل وقوله تعالى وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أي أذكر أم أنثى أتام أم ناقص وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال عطف على الجملة الظرفية أيضا نظير ما قبله، وخولف بين عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وبين هذا ليدل في الأول على مزيد الاختصاص اعتناء بأمر الساعة ودلالة على شدة خفائها، وفي هذا على استمرار تجدد التعلقات بحسب تجدد المتعلقات مع الاختصاص، ولم يراع هذا الأسلوب فيما قبله بأن يقال: ويعلم الغيث مثلا إشارة بإسناد التنزيل الى الاسم الجليل صريحا إلى عظم شأنه لما فيه من كثرة المنافع لأجناس الخلائق وشيوع الاستدلال بما يترتب عليه من إحياء الأرض على صحة البعث المشار إليه بالساعة في الكتاب العظيم قال تعالى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى [الروم: ٤٩، ٥٠] وقال سبحانه: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم: ١٩] إلى غير ذلك، وربما يقال: إن لتنزيل الغيث وإن لم يكن الغيث