ولعل الفائدة في العدول عن الظاهر في الضمير الأول على ما قال الطيبي الإيذان بأنه كما لا يصح لكل فرد فرد من المؤمنين أن يكون لهم الخيرة كذلك لا يصح أن يجتمعوا ويتفقوا على كلمة واحدة لأن تأثير الجماعة واتفاقهم أقوى من تأثير الواحد، ويستفاد منه فائدة الجمع في الضمير الثاني على تقدير عوده على ما عاد عليه الأول وكذا وجه إفراد الأمر إذا أمعن النظر وقرأ الحرميان والعربيان وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج وعيسى تكون بتاء التأنيث والوجه ظاهر ووجه القراءة بالياء وهي قراءة الكوفيين والحسن والأعمش والسلمي أن المرفوع بالفعل مفصول مع كون تأنيثه غير حقيقي، وقرىء كما ذكر عيسى بن سليمان «الخيرة» بسكون الياء وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في أمر من الأمور ويعمل فيه برأيه فَقَدْ ضَلَّ طريق الحق ضَلالًا مُبِيناً أي بين الانحراف عن سنن الصواب، والظاهر أن هذا في الأمور المقضية على ما يشعر به السوق، والآية على ما
روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم نزلت في زينب بنت جحش من عمته صلّى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب وأخيها عبد الله خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة وقال: إني أريد أزوجك زيد بن حارثة فإني قد رضيته لك فأبت وقالت: يا رسول الله لكني لا أرضاه لنفسي وأنا أيم قومي وبنت عمتك فلم أكن لأفعل.
وفي رواية أنها قالت: أنا خير منه حسبا ووافقها أخوها بعد الله على ذلك فلما نزلت الآية رضيا وسلما فأنكحها رسول الله صلّى الله عليه وسلم زيدا بعد أن جعلت أمرها بيده وساق إليها عشرة دنانير وستين درهما مهرا وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم فزوجها زيد بن حارثة فحطت (١) هي وأخوها وقالت إنما أردنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فزوجنا عبده وَإِذْ تَقُولُ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم أي اذكر وقت قولك لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بتوفيقه للإسلام وتوفيقك لحسن تربيته وعتقه ومراعاته وتخصيصه بالتبني ومزيد القرب وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعمل بما وفقك الله تعالى له من فنون الإحسان التي من جملتها تحريره وهو زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه، وإيراده بالعنوان المذكور كما قال شيخ الإسلام: لبيان منافاة حاله لما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من إظهار خلاف ما في ضميره الشريف إذ هو إنما يقع عند الاستحياء والاحتشام وكلاهما مما لا يتصور في حق زيد رضي الله تعالى عنه، وجوز أن يكون بيانا لحكمة إخفائه صلّى الله عليه وسلم ما أخفاه لأن مثل ذلك مع مثله مما يطعن به الناس كما قيل:
وأظلم خلق الله من بات حاسدا ... لمن كان في نعمائه يتقلب
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ أي زينب بنت جحش وذلك
أنها كانت ذا حدة ولا زالت تفخر على زيد بشرفها ويسمع منها ما يكره فجاء رضي الله تعالى عنه يوما إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن زينب قد اشتد علي لسانها وأنا أريد أن أطلقها فقال له عليه الصلاة والسلام: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ
في أمرها ولا تطلقها ضرارا وتعللا بتكبرها واشتداد لسانها عليك. وتعدية أَمْسِكْ بعلى لتضمينه معنى الحبس.
وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ عطف على تَقُولُ وجوزت الحالية بتقدير وأنت تخفي أو بدونه كما هو ظاهر كلام الزمخشري في مواضع من كشافه، والمراد بالموصول على ما
أخرج الحكيم الترمذي وغيره عن
(١) قوله فحطت هي وأخوها إلخ كذا بخطه ولعلها فخطئت إلخ وحرر اهـ. [.....]