الأنفس مجازا، وعبر بها عنها لأن أكثر ظهور أفعالها بها، وقيل: يحتمل أن تكون زائدة- والأيدي- بمعناها، والمعنى لا تجعلوا التَّهْلُكَةِ آخذة بأيديكم قابضة إياها، وأن تكون غير مزيدة- والأيدي- أيضا على حقيقتها ويكون المفعول محذوفا أي لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أنفسكم إِلَى التَّهْلُكَةِ وفائدة ذكر- الأيدي- حينئذ التصريح بالنهي عن الإلقاء إليها بالقصد والاختيار، والتَّهْلُكَةِ مصدر كالهلك والهلاك، وليس في كلام العرب مصدر على تفعلة- بضم العين- إلا هذا في المشهور، وحكى سيبويه عن العرب- تضره وتسره- أيضا بمعنى الضرر والسرور، وجوز أن يكون أصلها- تهلكة بكسر اللام- مصدر هلك مشددا كالتجربة والتبصرة فأبدلت- الكسرة ضمة- وفيه أن مجيء تفعلة- بالكسر- من فعل المشدد الصحيح الغير المهموز شاذ، والقياس تفعيل وإبدال- الكسرة بالضم من غير علة- في غاية الشذوذ، وتمثيله بالجوار- مضموم الجيم- في جوار مكسورها- ليس بشيء- إذ ليس ذلك نصا في الابدال لجواز أن يكون بناء المصدر فيه على فعال- مضموم الفاء شذوذا- يؤيده ما في الصحاح جاورته مجاورة وجوارا وجوارا- والكسر أفصح، وفرق بعضهم بين التَّهْلُكَةِ والهلاك بأن الأول ما يمكن التحرز عنه، والثاني ما لا يمكن، وقيل: الهلاك مصدر والتَّهْلُكَةِ نفس الشيء المهلك، وكلا القولين خلاف المشهور، واستدل بالآية على تحريم الإقدام على ما يخاف منه تلف النفس، وجواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين وَأَحْسِنُوا أي بالعود على المحتاج- قاله عكرمة- وقيل: أحسنوا الظن بالله تعالى وَأَحْسِنُوا في أعمالكم بامتثال الطاعات ولعله أولى.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ويثيبهم وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي اجعلوهما تامين إذا تصديتم لأدائهما لوجه الله تعالى فلا دلالة في الآية على أكثر من وجوب الإتمام بعد الشروع فيهما وهو متفق عليه بين الحنفية والشافعية رضي الله تعالى عنهم، فإن إفساد الحج والعمرة مطلقا يوجب المضي في بقية الأفعال والقضاء، ولا تدل على وجوب الأصل، والقول بالدلالة بناء على أن الأمر- بالإتمام- مطلقا يستلزم الأمر بالأداء لما تقرر من أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب- ليس بشيء- لأن الأمر بالإتمام يقتضي سابقية الشروع فيكون الأمر بالإتمام مقيدا بالشروع وادعاء أن المعنى ائتوا بهما حال كونهما تامين مستجمعي الشرائط والأركان، وهذا يدل على وجوبهما لأن الأمر ظاهر فيه، ويؤيده قراءة «وأقيموا الحج والعمرة» ليس بسديد. «أما أولا» فلأنه خلاف الظاهر وبتقدير قبوله في مقام الاستدلال يمكن أن يجعل الوجوب المستفاد من الأمر فيه متوجها إلى القيد- أعني تامين- لا إلى أصل الإتيان كما في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:«بيعوا سواء بسواء»
«وأما ثانيا» فلأن الأمر في القراءة محمول على المعنى المجازي المشترك بين الواجب والمندوب- أعني طلب الفعل- والقرينة على ذلك الأحاديث الدالة على استحباب العمرة،
فقد أخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن ماجة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال:«الحج جهاد والعمرة تطوع»
وأخرج الترمذي وصححه- عن جابر- أن رجلا سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن العمرة، أواجبة هي؟ قال:«لا، وأن تعتمروا خير لكم»
ويؤيد ذلك أن ابن مسعود صاحب هذه القراءة قال فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد:«الحج فريضة والعمرة تطوع» وأخرج ابن أبي داود في المصاحف- عنه أيضا- أنه كان يقرأ ذلك ثم يقول: والله لولا التحرج أني لم أسمع فيها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا لقلت: إن العمرة واجبة مثل الحج، وهذا يدل على أنه رضي الله تعالى عنه لم يجعل الأمر بالنسبة إليها للوجوب لأنه لم يسمع شيئا فيه- ولعله سمع ما يخالفه- ولهذا جزم في الرواية الأولى عنه بفرضية الحج واستحباب العمرة، وكأنه لذلك حمل الأمر في قراءته على القدر المشترك الذي قلناه لا غير بناء على امتناع استعمال المشترك في معنييه وعدم جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز والميل إلى عدم تقدير فعل موافق للمذكور يراد به الندب، نعم لا يعد ما ذكر صارفا