فقوله: حرز للمؤمنين مقابل لقوله تعالى: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ فإن دعوته صلّى الله عليه وسلم إنما حصلت فائدتها فيمن وفقه الله تعالى: بتيسيره وتسهيله فلذلك آمنوا من مكاره الدنيا وشدائد الآخرة فكان صلوات الله تعالى وسلامه عليه بهذا الاعتبار حرزا لهم، وقوله: سميتك المتوكل إلخ مقابل لقوله: وَسِراجاً مُنِيراً فعلم أن قوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا مناسب لقوله تعالى: وَسِراجاً مُنِيراً فإن السراج مضيء في نفسه ومنور لغيره فبكونه متوكلا على الله تعالى يكون كاملا في نفسه فهو مناسب لقوله: أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل إلى قوله: يعفو ويصفح وكونه منيرا يفيض الله تعالى عليه يكون مكملا لغيره وهو مناسب لقوله: حتى يقيم به الملة العوجاء إلخ ثم قال: ويمكن أن ينزل المراتب على لسان أهل العرفان فقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الفتح: ٨] هو مقام الشريعة ودعوة الناس إلى الإيمان وترك الكفر ونتيجة الإعراض عما سوى الله تعالى والأخذ في السير والسلوك والالتجاء إلى حريم لطفه تعالى والتوكل عليه عزّ وجلّ وقوله، سبحانه: وَسِراجاً مُنِيراً هو مقام الحقيقة ونتيجته فناء السالك وقيامه بقيوميته تعالى اهـ، ولا يخفى تكلف ما قرره في الحديث والله تعالى أعلم بمزاده.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها عود إلى ذكر النساء، والنكاح هنا العقد بالاتفاق واختلفوا في مفهومه لغة فقيل هو مشترك بين الوطء والعقد اشتراكا لفظيا، وقيل: حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وقيل: بقلبه وقيل هو مشترك بينهما اشتراكا معنويا وهو من أفراد المشكك وحقيقته الضم والجمع كما في قوله:
ضممت إلى صدري معطر صدرها ... كما نكحت أم الغلام صبيها
ونقل المبرد ذلك عن البصريين وغلام ثعلب الشيخ عمر والزاهد عن الكوفيين، ثم المتبادر من لفظ الضم تعلقه بالأجسام لا الأقوال لأنها أعراض يتلاشى الأول منها قبل وجود الثاني فلا يصادف الثاني ما ينضم إليه وهذا يقتضي كونه مجازا في العقد، وإن اعتبر الضم أعم من ضم الجسم إلى الجسم والقول إلى القول جاز أن يكون النكاح حقيقة في كل من الوطء والعقد وجاز أن يكون مجازا على التفصيل المعروف في استعمال العام في كل فرد من أفراده، واختار الراغب القول الثاني من الأقوال السابقة وبالغ في عدم قبول الثالث: فقال هو حقيقة في العقد ثم استعير للجماع ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد لأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنه.
واختار الزمخشري الثالث فقال: النكاح الوطء وتسمية العقد نكاحا لملابسته له من حيث إنه طريق له ونظيره تسمية الخمر إثما لأنها سبب في اقتراف الإثم، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد لأنه في حق الوطء من باب التصريح به ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسسة والقربان والتغشي والإتيان، وأراد على ما قيل إنه في العقد حقيقة شرعية منسى فيه المعنى اللغوي، وبحث في قوله لم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد بأنه في قوله تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: ٢٣] بمعنى الوطء وهذا ما عليه الجمهور وخالف في ذلك ابن المسيب، وتمام الكلام في موضعه، والمس في الأصل معروف وكني به هنا عن الجماع، والعدة هي الشيء المعدود وعدة المرأة المراد بها الأيام التي بانقضائها يحل لها التزوج أي يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات وتزوجتموهن ثم طلقتموهن من قبل أن تجامعوهن فما لكم عليهن من عدة بأيام يتربصن فيها بأنفسهن تستوفون عددها على أن تعتدون مطاوع عد يقال عد الدراهم فاعتدها أي استوفى عددها نحو قولك كلته فأكتلته ووزنته فاتزنته أو تعدونها على أن افتعل بمعنى فعل، وإسناد الفعل إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق الأزواج