هنا حصر العدو عند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فإن الأمن لغة في مقابلة الخوف ولنزوله عام الحديبية ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا حصر إلا حصر العدو فقيد إطلاق الآية وهو أعلم بمواقع التنزيل. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن المراد به ما يعم كل منع من عدو ومرض وغيرهما، فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث الحجاج بن عمرو «من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل» وروى الطحاوي من حديث عبد الرحمن بن زيد قال: «أهل رجل بعمرة يقال له عمر بن سعيد فلسع فبينا هو صريع في الطريق إذ طلع عليه ركب فيهم ابن مسعود فسألوه فقال: ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة فإذا كان ذلك فليحل» وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس، وروى البخاري مثله عنه، وقال عروة: كل شيء حبس المحرم فهو إحصار، وما استدل به الخصم مجاب عنه، أما الأول فستعلم ما فيه، وأما الثاني فإنه لا عبرة بخصوص السبب، والحمل على أنه للتأييد يأبى عنه ذكره باللام استقلالا، والقول بأن- أحصرتم- ليس عاما إذ الفعل المثبت لا عموم له فلا يراد إلا ما ورد فيه وهو حبس العدو بالاتفاق ليس بشيء لأنه وإن لم يكن عاما لكنه مطلق فيجري على إطلاقه، وأما الثالث فلأنه بعد تسليم حجية قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أمثال ذلك معارض بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عنه في تفسير الآية أنه كان يقول:«من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدي» فكما خصص في الرواية الأولى عمم في هذه وهو أعلم بمواقع التنزيل والقول- بأن حديث الحجاج ضعيف- ضعيف إذ له طرق مختلفة في السنن وقد روى أبو داود أن عكرمة سأل العباس وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهما عن ذلك فقالا: صدق، وحمله على ما إذا اشترط المحرم الإحلال عند عروض المانع من المرض له وقت النية
لقوله صلّى الله عليه وسلّم لضباعة:«حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني»
لا يتمشى على ما تقرر في أصول الحنفية من أن المطلق يجري على إطلاقه إلا إذا اتحد الحادثة والحكم وكان الإطلاق والتقييد في الحكم إذ ما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى.
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي فعليكم أو فالواجب أو فاهدوا ما استيسر أي تيسر فهو كصعب واستصعب، وليست السين للطلب، والْهَدْيِ مصدر بمعنى المفعول أي المهدي ولذلك يطلق على المفرد والجمع أو جمع هدية- كجدي وجدية- وقرىء هدي بالتشديد جمع هدية- كمطي ومطية- وهي في موضع الحال من الضمير المستكن، والمعنى أن المحرم إذا أحصر وأراد أن يتحلل تحلل بذبح هدي تيسر عليه من بدنة أو بقرة أو شاة، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: وما عظم فهو أفضل، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه خص الهدي ببقرة أو جزور فقيل له: أو ما يكفيه شاة؟ فقال: لا ويذبحه حيث أحصر عند الأكثر لأنه صلّى الله عليه وسلّم ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل، وعندنا يبعث من أحصر به ويجعل للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليوم وغلب على ظنه أنه ذبح تحلل لقوله تعالى:
وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فإن حلق الرأس كناية عن الحل الذي يحصل بالتقصير بالنسبة للنساء، والخطاب للمحصرين لأنه أقرب مذكور، والهدي الثاني عين الأول كما هو الظاهر أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه وهو الحرم لقوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: ٣٣] هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: ٩٥] وما روي من ذبحه صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديبية مسلم لكن كونه ذبح في الحل غير مسلم، والحنفية يقولون: إن محصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان في طريق الحديبية أسفل مكة، والحديبية متصلة بالحرم، والذبح وقع في الطرف المتصل الذي نزله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبه يجمع بين ما قاله مالك وبين ما
روى الزهري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نحر في الحرم