للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ يحتمل أن تكون ما شرطية في موضع نصب بأنفقتم وقوله تعالى: فَهُوَ يُخْلِفُهُ جواب الشرط، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي في موضع رفع بالابتداء والجملة بعد خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، ومِنْ شَيْءٍ تبيين على الاحتمالين، ومعنى يُخْلِفُهُ يعطي بدله وما يقوم مقامه عوضا عنه وذلك إما في الدنيا بالمال كما هو الظاهر أو بالقناعة التي هي كنز لا يفنى كما قيل وإما في الآخرة بالثواب الذي كل خلف دونه وخصه بعضهم بالآخرة، أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: إذا كان لأحدكم شيء فليقتصد ولا يتأول هذه الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ فإن الرزق مقسوم ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق الموسع عليه، وأخرج من عدا الفريابي من المذكورين عنه أنه قال في الآية: أي ما كان من خلف فهو منه تعالى وربما أنفق الإنسان ماله كله في الخير ولم يخلف حتى يموت، ومثلها: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: ٦] يقول ما آتاها من رزق فمنه تعالى وربما لم يرزقها حتى تموت، والأول أظهر لأن الآية في الحث على الإنفاق وأن البسط والقدر إذا كانا من عنده عزّ وجلّ فلا ينبغي لمن وسع عليه أن يخاف الضيعة بالإنفاق ولا لمن قدر عليه زيادتها، وقوله تعالى: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تذييل يؤيد ذلك كأنه قيل: فيرزقه من حيث لا يحتسب.

وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا»

وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «كل ما أنفق العبد نفقة فعلى الله تعالى خلفها ضامنا إلا نفقة في بنيان أو معصية» .

وأخرج البخاري وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجلّ أنفق يا ابن آدم أنفق عليك»

وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عنه قال: «قال عليه الصلاة والسّلام إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة»

وفي حديث طويل عن الزبير قال الله تبارك وتعالى: «أنفق أنفق عليك وأوسع أوسع عليك ولا تضيق أضيق عليك ولا تصر فأصر عليك ولا تخزن فأخزن عليك إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سماوات متواصل إلى العرش لا يغلق ليلا ولا نهارا ينزل الله تعالى منه الرزق على كل امرئ بقدر نيته وعطيته وصدقته ونفقته فمن أكثر أكثر له ومن أقل أقل له ومن أمسك أمسك عليه يا زبير فكل وأطعم ولا توكي فيوكى عليك ولا تحصي فيحصى عليك ولا تقتر فيقتر عليك ولا تعسر فيعسر عليك» الحديث

، ومعنى الرازقين الموصلين للرزق والموهبين له فيطلق الرازق حقيقة على الله عزّ وجلّ وعلى غيره ويشعر بذلك فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء: ٨] نعم لا يقال لغيره سبحانه رازق فلا إشكال في قوله سبحانه: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ووجه الأخيرية في غاية الظهور، وقيل إطلاق الرازق على غيره تعالى مجاز باعتبار أنه واسطة في إيصال رزقه تعالى فهو رازق صورة فاستشكل أمر التفضيل بأنه لا بدّ من مشاركة المفضل المفضل عليه في أصل الفعل حقيقة لا صورة.

وأجاب الآمدي بأن المعنى خير من تسمى بهذا الاسم وأطلق عليه حقيقة أو مجازا وهو ضرب من عموم المجاز وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أي المستكبرين والمستضعفين أو الفريقين وما كانوا يعبدون من دون الله عزّ وجلّ، ويَوْمَ ظرف لمضمر متقدم أي واذكر يوم أو متأخر أي ويوم نحشرهم جميعا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ إلى آخره يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال، وظاهر العطف بثم يقتضي أن القول للملائكة متراخ عن الحشر وفي الآثار ما شهد له،

فقد روي أن الخلق بعد أن يحشروا يبقون قياما في الموقف سبع آلاف سنة لا يكلمون حتى يشفع في فصل القضاء نبينا صلّى الله عليه وسلم

فلعله عند ذلك يقول سبحانه للملائكة عليهم السّلام أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ تقريعا للمشركين وتبكيتا وإقناطا لهم عما علقوا به أطماعهم الفارغة من شفاعة الملائكة عليهم السّلام

<<  <  ج: ص:  >  >>