وَما يُمْسِكْ أي أي شيء يمسك فَلا مُرْسِلَ لَهُ أي فلا أحد يقدر على إرساله، واختلاف الضميرين لما أن مرجع الأول مبين بالرحمة ومرجع الثاني مطلق يتناولها وغيرها، وفي ذلك مع تقديم أمر فتح الرحمة إشعار بأن رحمته تعالى سبقت غضبه عزّ وجلّ كما ورد في الحديث الصحيح، وقيل المراد وما يمسك من رحمة إلا أنه حذف المبين لدلالة ما قبل عليه، والتذكير باعتبار اللفظ وعدم ما يقوي اعتبار المعنى في التلفظ.
وأيد بأنه قرىء «فلا مرسل لها» بتأنيث الضمير مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد إمساكه وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي من جملتها الفتح والإمساك الْحَكِيمُ الذي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة، والجملة تذييل مقرر لما قبلها ومعرب عن كون كل من الفتح والإمساك بموجب الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين، وما ادعى هذه الآية إلى الانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عما سواه عزّ وجلّ وإراحة البال عن التخيلات الموجبة للتهويش وسهر الليال.
وقد أخرج ابن المنذر عن عامر بن عبد قيس: قال أربع آيات من كتاب الله تعالى إذا قرأتهن فما أبالي ما أصبح عليه وأمسي ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس: ١٠٧] وسَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق:
٧] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: ٦] وبعد ما بين سبحانه أنه الموجد للملك والملكوت والمتصرف فيهما على الإطلاق أمر الناس قاطبة أو أهل مكة كما روي عنه ابن عباس واختاره الطيبي بشكر نعمه عزّ وجلّ فقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي إنعامه تبارك وتعالى عليكم إن جعلت النعمة مصدرا أو كائنة عليكم أن جعلت اسما أي راعوها واحفظوها بمعرفة حقها والاعتراف بها وتخصيص العبادة والطاعة بموليها فليس المراد مجرد الذكر باللسان بل هو كناية عما ذكر، وعن ابن عباس وقد جعل الخطاب لمن سمعت اذكروا نعمة الله عليكم حيث أسكنكم حرمه ومنعكم من جميع العالم والناس يتخطفون من حولكم، وعنه أيضا نعمة الله تعالى العافية، والأولى عدم التخصيص، ولما كانت نعم الله تعالى مع تشعب فنونها منحصرة في نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء نفي سبحانه أن يكون في الوجود شيء غيره سبحانه يصدر عنه إحدى النعمتين بطريق الاستفهام الذي هو لإنكار التصديق وتكذيب الحكم فقال عزّ وجلّ: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ وهل تأتي لذلك كما في المطول وحواشيه، وقول الرضى: إن هل لا تستعمل للإنكار أراد به الإنكار على مدعي الوقوع كما في قوله تعالى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ [الإسراء: ٤٠] ويلزمه النفي والإنكار على من أوقع الشيء كما في قولك أتضرب زيدا وهو أخوك أي هل خالق مغاير له تعالى موجود لكم أو للعالم على أن خالِقٍ مبتدأ محذوف الخبر زيدت عليه مِنْ لتأكيد العموم وغَيْرُ اللَّهِ صفة له باعتبار محله، وصحت الوصفية به مع إضافته إلى أعرف المعارف لتوغله في التنكير فلا يكتسب تعريفا في مثل هذا التركيب، وجوز أن يكون بدلا من خالِقٍ بذلك الاعتبار ويعتبر الإنكار في حكم النفي ليكون غير الله هو الخالق المنفي ولأن المعنى على الاستثناء أي لا خالق إلا الله تعالى والبدلية في الاستثناء بغير إنما تكون في الكلام المنفي وبهذا الاعتبار زيدت مِنْ عند الجمهور وصح الابتداء بالنكرة، وكذا جوز أن يكون فاعلا بخالق لاعتماده على أداة الاستفهام نحو أقائم زيد في أحد وجهيه وهو حينئذ ساد مسد الخبر. وتعقبه أبو حيان بقوله فيه نظر وهو أن اسم الفاعل أو ما يجري مجراه إذا اعتمد على أداة الاستفهام وأجرى مجرى الفعل فرفع ما بعده هل يجوز أن تدخل عليه من التي للاستغراق فيقال هل من قائم الزيدون كما تقول هل قائم الزيدون، والظاهر أنه لا يجوز ألا ترى أنه إذا أجرى مجرى الفعل لا يكون فيه عموم بخلافه إذا دخلت عليه من ولا أحفظ مثله في لسان العرب،