وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي المكرات السيئات أو أصناف المكرات السيئات على أن السَّيِّئاتِ صفة لمحذوف وليس مفعولا به ليمكرون لأن مكر لازم، وجوز أن يكون مفعولا على تضمين يقصدون أو يكسبون وعلى الأول فيه مبالغة للوعيد الشديد على قصد المكر أو هو إشارة إلى عدم تأثير مكرهم، والموصول مبتدأ وجملة قوله تعالى لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ خبره أي لهم بسبب مكرهم عذاب شديد لا يقادر قدره ولا يعبأ بالنسبة إليه بما يمكرون.
والآية على ما روي عن أبي العالية في الذين مكروا برسول الله صلّى الله عليه وسلم في دار الندوة كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال: ٣٠] والمضارع لحكاية الحال الماضية، ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم في قوله سبحانه وَمَكْرُ أُولئِكَ للإيذان بكمال تميزهم بما هم عليه من الشر والفساد عن سائر المفسدين واشتهارهم بذلك، وما فيه من معنى البعد للتنبيه على ترامي أمرهم في الطغيان وبعد منزلتهم في العدوان أي ومكر أولئك المفسدين المشهورين هُوَ يَبُورُ أي يفسد، وأصل البوار فرط الكساد أو الهلاك فاستعير هنا للفساد عدم التأثير لأن فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد أو لأن الكاسد يكسد في الغالب لفساده ولأن الهالك فاسد لا أثر له. ومَكْرُ مبتدأ خبره جملة هُوَ يَبُورُ وتقديم الضمير للتقوى أو الاختصاص أي مكرهم هو يفسد خاصة لأمكرنا بهم، وأجاز الحوفي وأبو البقاء كون الخبر جملة يَبُورُ وهُوَ ضمير فصل. وتعقبه في البحر بأن ضمير الفصل لا يكون ما بعده فعلا ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمنا إلا عبد القاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلا. ورد ذلك عليه.
وجوز أبو البقاء أيضا كون هُوَ تأكيدا للمبتدأ، والظاهر ما قدمناه، وقد أبار الله تعالى أولئك الماكرين بعد إبارة مكرهم حيث أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم الثلاث التي اكتفوا في حقه عليه الصلاة والسلام بواحدة منهن وحقق عزّ وجلّ فيهم قوله سبحانه: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمران: ٥٤] وقوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: ٤٣] ووجه ارتباط الآية بما قبلها على ما ذكره شيخ الإسلام أنها بيان لحال الكلم الخبيث والعمل السيّء وأهلهما بعد بيان حال الكلم الطيب والعمل الصالح.
وقال في الكشف: كأنه لما حصر سبحانه العزة وخصها به تعالى يعطيها من يشاء وأرشد إلى نيل ما به ينال ذلك المطلوب ذكر على سبيل الاستطراد حال من أراد العزة من عند غيره عزّ وجلّ وأخذ في إهانة من أعزه الله تعالى فوق السماكين قدرا وما رجع إليهم من وبال ذلك كالاستشهاد لتلك الدعوى وهو خلاصة ما ذكره الطيبي في وجه الانتظام، وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب أن الآية في أصحاب الرياء وهي متصلة بما عندها على ما روي عن شهر حيث قال: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي يراؤون وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ هم أصحاب الرياء عملهم لا يصعد، وقال الطيبي: إن الجملة على هذه الرواية عطف على جملة الشرط والجزاء أعني قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ إلخ فيجب حينئذ مراعاة التطابق بين القرينتين والتقابل بين الفقرتين بحسب الإمكان بأن يقدر في كل منهما ما يحصل به التقابل بدلالة المذكور في الأولى على المتروك في الأخرى وبالعكس اهـ ولا يخفى بعده، وأيا ما كان فالمضارع للاستمرار التجددي وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ دليل آخر على صحة البعث والنشور أي خلقكم ابتداء منه في ضمن خلق آدم عليه السّلام خلقا إجماليا ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي ثم خلقكم منها خلقا تفصيليا ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أي أصنافا ذكرانا وإناثا كما قال سبحانه: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً [الشورى: ٥٠] وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي، وأخرج هو وغيره عن قتادة أنه قال قدر بينكم الزوجية وزوج بعضكم بعضا وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ حال من الفاعل ومن زائدة أي إلا ملتبسة بعلمه تعالى ومعلومية الفاعل راجعة