للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ليس بالمليح أُجاجٌ شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار وأجتها، ومن هنا قيل هو الذي يحرق بملوحته، وهذا مثل ضرب للمؤمن والكافر، وقوله تعالى: وَمِنْ كُلٍّ أي من كل واحد منهما تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا أي غضا جديدا وهو السمك على ما روي عن السدي، وقيل الطير والسمك واختار كثير الأول، والتعبير عن السمك باللحم مع كونه حيوانا قيل للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيه على المسارعة إلى أكله لئلا يتسارع إليه الفساد كما ينبىء عنه جعل كل من البحرين مبدأ أكله.

واستدل مالك والثوري بالآية حيث سمي فيها السمك لحما على حنث من حلف لا يأكل لحما وأكل سمكا، وقال غيرهما: لا يحنث لأن مبنى الايمان على العرف وهو فيه لا يسمى لحما ولذلك لا يحنث من حلف لا يركب دابة فركب كافرا مع أن الله تعالى سماه دابة في قوله سبحانه: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: ٥٥] ولا يبعد عندي أن يراد بلحما لحم السمك ودعوى التلويح بانحصار الانتفاع بالسمك في الأكل لا أظنها تامة وَتَسْتَخْرِجُونَ ظاهره ومن كل تستخرجون حِلْيَةً تَلْبَسُونَها والحلية التي تستخرج من البحر الملح اللؤلؤ والمرجان ويلبس ذلك الرجال والنساء وإن اختلفت كيفية اللبس، أو يقال عبر عن لبس نسائهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لبسهن لأجلهم، ولا نعلم حلية تستخرج من البحر العذب، ولا يظهر هنا اعتبار إسناد ما للبعض إلى الكل كما اعتبر ذلك في قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: ٢٢] وكون بعض الصخور التي في مجاري السيول قد تكسر فيوجد فيها ماس وهو حلية تلبس إن صح لا ينفع اعتباره هنا إذ ليس فيه استخراج الحلية من البحر العذب ظاهرا، وقيل: لا يبعد أن تكون الحلية المستخرجة من ذلك عظام السمك التي يصنع منها قبضات للسيوف والخناجر مثلا فتحمل ويتحلى بها، وفيه ما فيه لا سيما إذا كانت الحلية كالحلي ما يتزين به من مصنوع المعدنيات أو الحجارة، وقال الخفاجي: لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة وإن لم نره، ولا يخفى ما فيه من البعد.

وذهب بعض الأجلة للخلاص من القيل والقال أن المراد وتستخرجون من البحر الملح خاصة حلية تلبسونها ويشعر به كلام السدي يحتمل ثلاثة أوجه، الأول أنه استطراد في صفة لبحرين وما فيهما من النعم والمنافع.

والثاني أنه تتميم وتكميل للتمثيل لتفضيل المشبه به على المشبه وليس من ترشيح الاستعارة كما زعم الطيبي في شيء بل إنما هو استدراك لدعوى الاشتراك بين المشبه والمشبه به يلزم منه أن يكون المشبه أقوى وهذا الاستدراك مخصوص بالملح، وإيضاحه أنه شبه المؤمن والكافر بالبحرين ثم فضل الأجاج على الكافر بأنه قد شارك الفرات في منافع والكافر خلو من النفع فهو على طريقة قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: ٧٤] ثم قال سبحانه: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة: ٧٤] والثالث أنه من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين وإن اشتركا في بعض الفوائد تفاوتا فيما هو المقصود بالذات لأن أحدهما خالطه ما لم يبقه على صفاء فطرته كذلك المؤمن والكافر وإن اتفق اتفاقهما في بعض المكارم كالشجاعة والسخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر فجملة وَمِنْ كُلٍّ إلخ حالية، وعندي خير الأوجه الثلاثة أوسطها، وعلى كل يحصل الجواب عما قيل كيف يناسب ذكر منافع البحر الملح وقد شبه به الكافر؟ وقل أبو حيان: إن قوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ إلخ لبيان ما يستدل به كل عاقل على أنه مما لا مدخل لصنم فيه.

وقال الإمام: الأظهر أنه دليل لكمال قدرة الله عزّ وجلّ، وما ذكرنا أولا من أنه تمثيل للمؤمن والكافر هو المشهور رواية ودراية وفيه من محاسن البلاغة ما فيه وَتَرَى الْفُلْكَ السفن فِيهِ أي في كل منهما وانظر هل يحسن

<<  <  ج: ص:  >  >>