الوحي لاستدعائه تكليفا لا يعود منه نفع له سبحانه ولا يتوقف إيصاله تعالى الثواب إلى العبد عليه، وقيل ذكر الرحمن في الحكاية لا في المحكي وهم قالوا لا إله ولا رسالة لما في بعض الآثار أنهم قالوا ألنا إله سوى آلهتنا، والتعبير به لحلمه تعالى عليهم ورحمته سبحانه إياهم بعدم تعجيل العذاب آن إنكارهم ولعل ما تقدم أولى وأظهر ولا جزم بصحة ما ينافيه من الأثر.
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ فيما تدعون وهذا تصريح بما قصدوه من الجملتين السابقتين واختيار تكذبون على كاذبون للدلالة على التجدد.
قالُوا أي المرسلون رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ استشهدوا بعلم الله تعالى وهو جار مجرى القسم في التأكيد والجواب بما يجاب به، وذكر أن من استشهد به كاذبا يكفر ولا كذلك القسم على كذب، وفيه تحذيرهم معارضة علم الله تعالى، وفي اختيار عنوان الربوبية رمز إلى حكمة الإرسال كما رمز الكفرة إلى ما ينافيه بزعمهم.
وإضافة رب إلى ضمير الرسل لا يأبى ذلك، ويجوز أن يكون اختياره لأنه أوفق بالحال التي هم فيها من إظهار المعجز على أيديهم فكأنهم قالوا ناصرنا بالمعجزات يعلم إنا إليك لمرسلون، وتقديم المسند إليه لتقوية الحكم أو للحصر أي ربنا يعلم لا أنتم لانتفاء النظر في الآيات عنكم وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ إلا بتبليغ رسالته تعالى تبليغا ظاهرا بينا بحيث لا يخفى على سامعه ولا يقبل التأويل والحمل على خلاف المراد أصلا وقد خرجنا من عهدته فلا مؤاخذة علينا من جهة ربنا كذا قيل، والأولى أن يفسر التبليغ المبين بما قرن بالآيات الشاهدة على الصحة وهم قد بلغوا كذلك بناء على ما روي من أنهم أبرؤوا الأكمه وأحيوا الميت أو أنهم فعلوا خارقا غير ما ذكر ولم ينقل لنا ولم يلتزم في الكتاب الجليل ولا في الآثار ذكر خارق كل رسول كما لا يخفى، ثم إن ذلك أما معجزة لهم على القول بأنهم رسل الله تعالى بدون واسطة أو كرامة لهم معجزة لمرسلهم عيسى عليه السّلام على القول بأنهم رسله عليه السّلام، والمعنى ما علينا من جهة ربنا إلا التبليغ البين بالآيات وقد فعلنا فلا مؤاخذة علينا أو ما علينا شيء نطالب به من جهتكم إلا تبليغ الرسالة على الوجه المذكور وقد بلغنا كذلك فأي شيء تطلبون منا حتى تصدقونا بدعوانا ولكون تبليغهم كان بينا بهذا المعنى حسن منهم الاستشهاد بالعلم فلا تغفل، وجاء كلام الرسل ثانيا في غاية التأكيد لمبالغة الكفرة في الإنكار جدا حيث أتوا بثلاث جمل وكل منها دال على شدة الإنكار كما لا يخفى على من له أدنى تأمل قال السكاكي: أكدوا في المرة الأولى لأن تكذيب الاثنين تكذيب للثالث لاتحاد المقالة فلما بالغوا في تكذيبهم زادوا في التأكيد، وقال الزمخشري: إن الكلام الأول ابتداء أخبار والثاني جواب عن إنكار، ووجه ذلك السيد السند بأن الأول ابتداء أخبار بالنظر إلى أن مجموع الثلاثة لم يسق منهم أخبار فلا تكذيب لهم في المرة الأولى فيحمل التأكيد فيها على الاعتناء والاهتمام منهم بشأن الخبر انتهى، وفيه أن الثلاثة كانوا عالمين بإنكارهم والكلام المخرج مع المنكر لا يقال له ابتداء أخبار، وقال صاحب الكشف: أراد أنه غير مسبوق بأخبار سابق ولم يرد أنه كلام مع خالي الذهن أو جعل الابتداء باعتبار قول الثالث أو المجموع، وقال الجلبي: لعل مراده أنه بمنزلة ابتداء أخبار بالنسبة إلى إنكارهم الثاني في عدم احتياجه إلى مثل تلك المؤكدات فكان إنكارهم الأول لا يعد إنكارا بالنسبة إلى إنكارهم الثاني لا أنه ابتداء أخبار حقيقة، ولا يخفى ضعف ذلك، وقال الفاضل اليمني: إنما أكد القول الأول لتنزيلهم منزلة من أنكر إرسال الثلاثة لأنه قد لاح ذلك من إنكار الاثنين فعلى هذا يكون ابتداء أخبار بالنظر إلى إخراج الكلام على مقتضى الظاهر وإنكاريا بالنظر إلى إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر فنظر الزمخشري أدق من نظر السكاكي وإن قال السيد السند بالعكس، ويعلم ما فيه مما تقدم بأدنى نظر، وقال أجل المتأخرين الفاضل عبد الحكيم السالكوتي: عندي أن ما ذكره السكاكي