وقوله تعالى فِيهِ هُدىً- بعد- لا رَيْبَ [البقرة: ٢] فليحفظ إِنْ كانَتْ أي ما كانت الفعلة أو النفخة التي حكيت آنفا إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً حصلت من نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور، وقيل: هي قول إسرافيل عليه السلام أيتها العظام النخرة والأوصال المتقطعة والشعور المتمزقة إن الله يأمر كن أن تجتمعن لفصل القضاء. وقرىء برفع «صيحة» ومر توجيهها فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ مجموع لَدَيْنا عندنا وفي محل حكمنا وانقطاع التصرف الظاهري من غيرنا مُحْضَرُونَ لفصل الحساب من غير لبث ما طرفة عين، وفيه من تهوين أمر البعث والحشر والإيذان باستغنائهما عن الأسباب ما لا يخفى.
فَالْيَوْمَ الحاضر أو المعهود وهو يوم القيامة الدال نفخ الصور عليه وانتصب على الظرف والعامل فيه قوله تعالى لا تُظْلَمُ نَفْسٌ من النفوس برة كانت أو فاجرة شَيْئاً من الظلم فهو نصب على المصدرية أو شيئا من الأشياء على أنه مفعول به على الحذف والإيصال وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي الإجزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من الكفر والمعاصي فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للتنبيه على قوة التلازم والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد أو إلا بما كنتم تعملونه أي بمقابلته أو بسببه، وقيل: لا تجزون إلا نفس ما كنتم تعملونه بأن يظهر بصورة العذاب، وهذا حكاية عما يقال للكافرين حين يرون العذاب المعد لهم تحقيقا للحق وتقريعا لهم، واستظهر أبو حيان أن الخطاب يعم المؤمنين بأن يكون الكلام اخبارا من الله تعالى عما لأهل المحشر على العموم كما يشير إليه تنكير نَفْسٌ واختاره السكاكي، وقيل: عليه يأباه الحصر لأنه تعالى يوفي المؤمنين أجورهم ويزيدهم من فضله أضعافا مضاعفة. ورد بأن المعنى أن الصالح لا ينقص ثوابه والطالح لا يزاد عقابه لأن الحكمة تأبى ما هو على صورة الظلم أما زيادة الثواب ونقص العقاب فليس كذلك أو المراد بقوله تعالى وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إنكم لا تجزون إلا من جنس عملكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وقوله تعالى إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ على تقدير كون الخطاب السابق خاصا بالكفرة من جملة ما سيقال لهم يومئذ زيادة لحسرتهم وندامتهم فإن الأخبار يحسن حال أعدائهم أثر بيان سوء حالهم مما يزيدهم مساءة على مساءة وفي حكاية ذلك مزجرة لهؤلاء الكفرة عما هم عليه ومدعاة إلى الاقتداء بسيرة المؤمنين، وعلى تقدير كونه عاما ابتداء كلام وأخبار لنا بما يكون في يوم القيامة إذا صار كل إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب، والشغل هو الشأن الذي يصد المرء ويشغله عما سواه من شؤونه لكونه أهم عنده من الكل إما لا يجابه كمال المسرة أو كمال المساءة والمراد هاهنا هو الأول، وتنكيره للتعظيم كأنه شغل لا يدرك كنهه، والمراد به ما هم فيه من النعيم الذي شغلهم عن كل ما يخطر بالبال، وعن ابن عباس وابن مسعود، وقتادة هو افتضاض الأبكار وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، وفي رواية أخرى عن ابن عباس ضرب الأوتار.
وقيل السماع وروي عن وكيع وعن ابن كيسان التزاور، وقيل ضيافة الله تعالى وهي يوم الجمعة في الفردوس الأعلى عند كثيب المسك وهناك يتجلى سبحانه لهم فيرونه جل شأنه جميعا، وعن الحسن نعيم شغلهم عما فيه أهل النار من العذاب، وعن الكلبي شغلهم عن أهاليهم من أهل النار لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا، ولعل التعميم أولى.
وليس مراد أهل هذه الأقوال بذلك حصر شغلهم فيما ذكروه فقط بل بيان أنه من جملة أشغالهم، وتخصيص كل منهم كلا من تلك الأمور بالذكر محمول على اقتضاء مقام البيان إياه، وأفرد الشغل باعتبار أنه نعيم وهو واحد بهذا الاعتبار، والجار مع مجروره متعلق بمحذوف وقع خبرا لأن وفاكِهُونَ خبر ثان لها وجوز أن يكون هو الخبر وفِي شُغُلٍ متعلق به أو حال من ضميره والمراد بفاكهون على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن