للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيفيد كل منهما ما لا يفيده الآخر، نعم قال العلامة أبو السعود في ذلك: إن اعتبار فليمتز المؤمنون وإضماره بمعزل عن السداد لما أن المحكي عنهم ليس مصيرهم إلى ما ذكر من الحال المرضية حتى يتسنى ترتيب الأمر المذكور عليه بل إنما هو استقرارهم عليها بالفعل، وكون ذلك تنزيل المترقب منزلة الواقع لا يجدي نفعا لأن مناط الاعتبار والإضمار انسياق الأفهام إليه وانصباب نظم الكلام عليه فبعد التنزيل المذكور وإسقاط الترقب عن درجة الاعتبار يكون التصدي لإضمار شيء يتعلق به إخراجا للنظم الكريم عن الجزالة بالمرة، والظاهر أنه لا فرق في هذا بين التضمين والإضمار، والذي يغلب على الظن أن ما ذكر لا يفيد أثر من أولوية تقدير فليقروا عينا على تقدير فليمتازوا فليفهم، وقال بعض الأذكياء: يجوز أن يكون امْتازُوا فعلا ماضيا والضمير للمؤمنين أي انفرد المؤمنون عنكم بالفوز بالجنة ونعيمها أيها المجرمون ففيه تحسير لهم والعطف حينئذ من عطف الفعلية الخبرية على الاسمية الخبرية ولا منع منه، وتعقب بأنه مع ما فيه من المخالفة للأسلوب المعروف من وقوع النداء مع الأمر نحو يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا [يوسف: ٢٩] قليل الجدوى وما ذكره من التحسير يكفي فيه ما قبل من ذكر ما هم عليه من التنعم وأيضا المأثور يأبى عنه غاية الإباء وهو كالنص في أن امْتازُوا فعل أمر ولا يكاد يخطر لقارىء ذلك.

أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ من جملة ما يقال لهم بطريق التقريع والإلزام والتبكيت بين الأمر بالامتياز والأمر بمقاساة حر جهنم، والعهد الوصية والتقدم بأمر فيه خير ومنفعة، والمراد به هاهنا ما كان منه تعالى على ألسنة الرسل عليهم السلام من الأوامر والنواهي التي من جملتها قوله تعالى يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف: ٢٧] الآية، وقوله تعالى وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة: ١٦٨] وغيرهما من الآيات الواردة في هذا المعنى، وقيل: هو الميثاق المأخوذ عليهم في عالم الذر إذ قال سبحانه لهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: ١٧٢] وقيل: هو ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادة الله تعالى الزاجرة عن عبادة غيره. عز وجل فكأنه استعارة لإقامة البراهين والمراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها ولوقوعها في مقابلة عبادته عز وجل، وجوز أن يراد بها عبادة غير الله تعالى من الآلهة الباطل وإضافتها إلى الشيطان لأنه الآمر بها والمزين لها فالتجوز في النسبة، وقرأ طلحة والهذيل بن شرحبيل الكوفي «اعهد» بكسر الهمزة قاله صاحب اللوامح وقال هي لغة تميم، وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين أحرف المضارعة وقال ابن عطية قرأ الهذيل وابن وثاب «ألم اعهد» بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي من كسر حرف المضارعة سوى الياء، وروي عن ابن وثاب «ألم أعهد» بكسر الهاء ويقال عهد وعهد اه.

ولعله أراد أن كسر الميم يدل على كسر الهمزة لأن حركة الميم هي الحركة التي نقلت إليها من الهمزة وحذفت الهمزة بعد نقل حركتها لا أن الميم مكسورة والهمزة بعدها مكسورة أيضا فتلفظ بها، وقال الزمخشري: قرىء «اعهد» بكسر الهمزة وباب فعل كله يجوز في حروف مضارعته الكسر إلا في الياء و «أعهد» بكسر الهاء وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم وضرب يضرب و «احهد» بإبدال العين وحدها حاء مهملة و «أحد» بإبدالها مع إبدال الهاء وادغامها وهي لغة تميم ومنه قولهم دحا محا أي دعها معها وما ذكره من قوله: إلا في الياء مبني على بعض اللغات وعن بعض كلب أنهم يكسرون الياء أيضا فيقولون يعلم مثلا وقوله في أحهد وأحد لغة بني تميم هو المشهور، وقيل:

أحهد لغة هذيل وأحد لغة بني تميم وقولهم دحا محا إما يريدوا به دع هذه القربة مع هذه المرأة أودع هذه المرأة مع هذه القربة إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة وهو تعليل لوجوب الانتهاء، وقيل: تعليل للنهي وعداوة اللعين جاءت من قبل عداوته لآدم عليه السلام والنداء بوصف النبوة لآدم كالتمهيد لهذا التعليل والتأكيد لعدم جريهم على

<<  <  ج: ص:  >  >>