كأنه وجه شيطان أو رأس شيطان وإن لم يروه لما أنه مستقبح جدا في طباعهم لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير فيرتسم في خيالهم بأقبح صورة، ومن ذلك قول امرئ القيس:
أتقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فشبه بأنياب الأغوال وهي نوع من الشياطين ولم يرها لما ارتسم في خياله، وعلى عكس هذا تشبيههم الصورة الحسنة بالملك وذلك أنهم اعتقدوا فيه أنه خير محض لا شر فيه فارتسم في خيالهم بأحسن صورة، وعليه قوله تعالى ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: ٣١] وبهذا يرد على بعض الملاحدة حيث طعن في هذا التشبيه بأنه تشبيه بما لا يعرف، وحاصله أنه لا يشترط أن يكون معروفا في الخارج بل يكفي كونه مركوزا في الذهن والخيال.
وحمل التشبيه في الآية على ما ذكر هو المروي عن ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما، وزعم الجبائي أن الشياطين حين يدخلون النار تشوه صورهم جدا وتستبشع أعضاؤهم فالمراد كأنه رؤوس الشياطين الذين في النار، وفيه أن التشبيه عليه أيضا غير معروف في الخارج عند النزول، وقيل: رؤوس الشياطين شجرة معروفة تكون بناحية اليمن منكرة الصورة يقال لها الأستن وإياها عنى النابغة بقوله:
تحيد عن استن سود أسافله ... مثل الإماء الغوادي تحمل الحزما
قال الأصمعي: ويقال لها الصوم وأنشد:
موكل بشدوف الصوم يرقبه ... من المغارب مهضوم الحشا زرم (١)
وقيل: الشياطين جنس من الحيات ذوات أعراف، وأنشد الفراء:
عجيز تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط أعرف
أي له عرف، وأنشد المبرد:
وفي البقل إن لم يدفع الله شره ... شياطين يعدو بعضهن على بعض
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها تفريع على جعلها فتنة أي محنة وعذابا للظالمين، وضمير المؤنث للشجرة، ومن ابتدائية أو تبعيضية وهناك مضاف مقدر أي من طلعها، وقيل: من تبعيضية والضمير للطلع وأنث لإضافته إلى المؤنث أو لتأويله بالثمرة أو للشجرة على التجوز، ولا يخلو كل عن بعد ما فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ لغلبة الجوع وإن كرهوها أو للقسر على أكلها ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أي على الشجرة التي ملؤوا منها بطونهم لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ أي لشرابا ممزوجا بماء شديد الحرارة وهذا الشراب هو الغساق أي ما يقطر من جراح أهل النار وجلودهم، وقيل: هذا هو الصديد وأما الغساق فعين في النار تسيل إليها سموم الحيات والعقارب أو دموع الكفرة فيها، وشربهم ذلك لغلبة عطشهم بما أكلوا من الشجرة فإذا شربوا تقطعت أمعاؤهم.
وقرىء «لشوبا» بضم الشين وهو اسم لما يشاب به، وعلى الأول هو مصدر سمي به، وكلمة ثم قيل للتراخي الزماني وذلك أنه بعد أن يملؤوا البطون من تلك الشجرة يعطشون ويؤخر سقيهم زمانا ليزداد عطشهم فيزداد عذابهم.
واعترض بأنه يأباه عطف الشرب بالفاء في قوله تعالى فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [الواقعة: ٥٣، ٥٤] فلا بد من عدم توسط زمان. وأجيب بأنه يجوز أن يكون شرب الشراب الممزوج بالحميم متأخرا
(١) يصف وعلا يظن هذا الشجر قناصا فهو يرقبه والشدوف الشخوص واحدها شدف اه منه.