على من يقرأ من المصحف دون حفظ من العوام بأن يقرأه كتدعون الأول ويظن أن المراد إنكار بين دعاء بعل ودعاء أحسن الخالقين، وليس بالوجه إذ ليس من سنة الكتاب ترك ما يلبس على العوام كما لا يخفى على الخواص.
والصحابة أيضا لم يراعوهم وإلا لما كتبوا المصحف غير منقوط ولا ذا شكل كما هو المعروف اليوم، وفي بقاء الرسم العثماني معتبرا إلى انقضاء الصحابة ما يؤيد ما قلنا، الثالث أن التجنيس تحسين وإنما يستعمل في مقام الرضا والإحسان لا في مقام الغضب والتهويل، وفيه بأنه وقع فيما نفاه قال تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم: ٥٥] وقال سبحانه يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [النور: ٤٣، ٤٤] وفيهما الجناس التام ولا يخفى حال المقام، الرابع ما نقل عن الإمام فإنه سئل عن سبب ترك تدعون إلى تَذَرُونَ فقال: ترك لأنهم اتخذوا الأصنام آلهة وتركوا الله تعالى بعد ما علموا أن الله سبحانه ربهم ورب آبائهم الأولين استكبارا واستنكارا فلذلك قيل وَتَذَرُونَ ولم يقل وتدعون، وفيه القول بأن دع أمر بالترك قبل العلم وذر أمر بالترك بعده ولا تساعده اللغة والاشتقاق، الخامس أن لإنكار كل من فعلي دعاء بعل وترك أحسن الخالقين علة غير علة إنكار الآخر فترك التجنيس رمزا إلى شدة المغايرة بين الفعلين، السادس أنه لما لم يكن مجانسة بين المفعولين بوجه من الوجوه ترك التجنيس في الفعلين المتعلقين بهما وإن كانت المجانسة المنفية بين المفعولين شيئا والمجانسة التي نحن بصددها بين الفعلين شيئا آخر، وكلا الجوابين كما ترى، السابع أن يدع إنما استعملته العرب في الترك الذي لا يذم مرتكبه لأنه من الدعة بمعنى الراحة ويذر بخلافه لأنه يتضمن إهانة وعدم اعتداد لأنه من الوذر قطعة اللحم الحقيرة التي لا يعتد بها. واعترض بأن المتبادر من قوله بخلافه أن يذر إنما استعملته العرب في الترك الذي يذم مرتكبه فيرد عليه قوله تعالى فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ [الأنعام: ١١٢، ١٣٧] وقوله سبحانه وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة: ٢٧٨] إلى غير ذلك وفيه تأمل. الثامن أن يدع أخص من يذر لأنه بمعنى ترك الشيء مع اعتناء به بشهادة الاشتقاق نحو الإيداع فإنه ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها ولهذا يختار لها من هو مؤتمن ونحوه موادعة الأحباب وأما يذر فمعناه الترك مطلقا أو مع الاعراض والرفض الكلي، قال الراغب يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة الاعتداد به ومنه الوذر وهو ما سمعت آنفا، ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول إذ المراد تبشيع حالهم في الإعراض عن ربهم وهو قريب من سابقه لكنه سالم عن بعض ما فيه، التاسع أن في تدعون بفتح التاء والدال ثقلا ما لا يخفى على ذي الذوق السليم والطبع المستقيم وَتَذَرُونَ سالم عنه فلذا اختير عليه فتأمل والله تعالى أعلم، وقد أشار سبحانه وتعالى بقوله أَحْسَنَ الْخالِقِينَ إلى المقتضي للانكار المعنى بالهمز وصرح به للاعتناء بشأنه في قوله تعالى:
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بالنصب على البدلية من أحسن الخالقين، قال أبو حيان: ويجوز كون ذاك عطف بيان إن قلنا إن إضافة أفعل التفضيل محضة، وقرأ غير واحد من السبعة بالرفع على أن الاسم الجليل مبتدأ ورَبَّكُمْ خبره أو هو خبر مبتدأ محذوف وربكم عطف بيان أو بدل منه، وروي عن حمزة أنه إذا وصل نصب وإذا وقف رفع، والتعرض لذكر ربوبيته تعالى لآبائهم الأولين لتأكيد إنكار تركهم إياه تعالى والإشعار ببطلان آراء آبائهم أيضا فَكَذَّبُوهُ فيما تضمنه كلامه من إيجاب الله تعالى التوحيد وتحريمه سبحانه الإشراك وتعذيبه تعالى عليه، وجوز أن يكون تكذيبهم راجعا إلى ما تضمنه قوله الله ربكم فَإِنَّهُمْ بسبب ذلك لَمُحْضَرُونَ أي في العذاب وإنما أطلقه اكتفاء بالقرينة أو لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر في العرف العام أو حيث استعمل في القرآن لإشعاره بالجبر إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء متصل من الواو في كذبوه فيدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه، ومنع