القرآن انطباقا موافقا، ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام، ثم قال: وأقول أنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا ما شاع من الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردانها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلا عن حجة ولفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرها الجمهور كما قد ظهر ظهورا لا يرتاب العاقل فيه، وبفرض الدلالة يقال إن الدلائل الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام ولم يدل دليل على صحة تلك الحكايات ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالى بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم انتهى كلامه.
وكان عليه الرحمة قد اعترض القول برجوع ضمير تَوارَتْ إلى الشمس دون الصافنات بأن الصافنات مذكورة بصريحها والشمس ليس كذلك وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدر، وأيضا أنه قال إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ وظاهره يدل على أنه كان يعيد ويكرر قوله إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي إلى أن توارت بالحجاب فإذا كانت المتوارية الشمس يلزم القول بأنه كرر ذلك من العصر إلى المغرب وهو بعيد، وإذا كانت الصافنات كان المعنى أنه حين وقع بصره عليها حال عرضها كان يقول ذلك إلى أن غابت عن عينه وذلك مناسب، وأيضا القائلون بالعود إلى الشمس قائلون بتركه عليه السلام صلاة العصر ويأباه أني أحببت إلخ لأن تلك المحبة لو كانت عن ذكر الله تعالى لما نسي الصلاة ولما ترك ذكر الله عزّ وجلّ، وأقول: ما عند الجمهور أولى بالقبول وما ذكره عليهم من الوجوه لا يلتفت إليه ولا يعول عليه. أما ما قاله من أنه لو كان مسح السوق والأعناق بمعنى القطع لكان امسحوا برؤوسكم أمرا بقطعها ففيه أن هذا إنما يتم لو قيل إن المسح كلما ذكر بمعنى القطع ولم يقل ولا يقال وإنما قالوا: إن المسح في الآية بمعنى القطع وقد قال بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في خبر حسن وقد قدمناه لك عن الطبراني والاسماعيلي وابن مردويه وليس بعد قوله عليه الصلاة والسلام قول القائل، ويكفي مثل ذلك الخبر في مثل هذا المطلب إذ ليس فيه ما يخالف العقل أو نقلا أقوى كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.
وقد ذكر هذا المعنى للمسح الزمخشري أيضا وهو من أجلة علماء هذا الشأن، وصح نقله عن جماعة من السلف، وقال الخفاجي: استعمال المسح بمعنى ضرب العنق استعارة وقعت في كلامهم قديما، نعم احتياج ذلك للقرينة مما لا شبهة فيه، والقرينة عند من يدعيه هاهنا السياق وعود ضمير تَوارَتْ على الشمس وهو كالمتعين كما سيتضح لك إن شاء الله تعالى.
وأما قوله: إنهم جمعوا على سليمان عليه السلام أنواعا من الأفعال المذمومة ففرية من غير مرية. وقوله: أولها ترك الصلاة فيه أن الترك المذموم ما كان عن عمد وهم لا يقولون به وما يقولون به الترك نسيانا وهو ليس بمذموم إذ النسيان لا يدخل تحت التكليف على أن كون ما ترك فرضا مما لم يجزم به الجميع، وقوله: ثانيها أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إلى حيث ترك الصلاة، فيه أن ذلك اشتغال بخيل الجهاد وهو عبادة.
وقوله: ثالثها أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة، فيه أنا لا نسلم أنه عليه السلام ارتكب ذنبا حقيقة فضلا عن كونه عظيما، نعم ربما يقال: إنه عليه السلام لم يستحسن ذلك بمقامه فاتبعه التقرب بالخيل التي شغل بسببها وذلك يدل على التوبة دلالة قوية ولم يكن ليتعطل أمر الجهاد به فقد أوتي عليه السلام غير ذلك على أن كون ما ذكر كالاستشهاد على قوله تعالى: إِنَّهُ أَوَّابٌ مشعر بتضمنه الأوبة وإن ذهبنا إلى تعلق إِذْ عُرِضَ بأواب يكاد لا يرد هذا الكلام رأسا.
وقوله: رابعها أنه خاطب ربه عزّ وجلّ بلفظ غير مناسب، فيه أنه إن ورد فإنما يرد على القول برجوع ضمير