للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعالى أيضا، وأريد هذا المعنى من هذا إلا يراد لا من اللفظ ليلزم الجمع المذكور آنفا، وجعل الله عزّ وجلّ من الملأ الأعلى بأن يراد به ما عدا البشر ليكون الاختصام قائما به تعالى وبهم على معنى أنه سبحانه في مقابلتهم يخاصمونه ويخاصمهم مع ما فيه من إيهام الجهة له عزّ وجلّ ينبو المقام عنه نبوا ظاهرا، ولم يذكر سبحانه جواب الملائكة عليهم السلام لتتم المقاولة اختصارا بما كرر مرارا ولهذا لم يقل جل شأنه إني خالق خلقا من صفته كيت وكيت جاعل إياه خليفة.

وروعي هذا النسق هاهنا لنكتة سرية وهي أن يجعل مصب الغرض من القصة حديث إبليس ليلائم ما كان فيه أهل مكة وأنه بامتناعه عن امتثال أمر واحد جرى عليه ما جرى فكيف يكون حالهم وهم مغمورون في المعاصي وفيه أنه أول من سن العصيان فهو إمامهم وقائدهم إلى النار، وذكر حديث سجود الملائكة وطي مقاولتهم في شأن الاستخلاف ليفرق بين المقاولتين وأن السؤال قبل الأمر ليس مثله بعده فإن الثاني يلزمه التواني، ثم فيه حديث تكريم آدم عليه السلام ضمنا دلالة على أن المعلم والناصح يعظم وأنه شرع منه تعالى قديم، وكان على أهل مكة أن يعاملوا النبي صلّى الله عليه وسلم معاملة الملائكة لآدم لا معاملة إبليس له قاله صاحب الكشف وهو حسن بيد أن ما علل به الاختصار من تكرار ذلك مرارا لا يتم إلا إذا كان ذلك في سورة مكية نزلت قبل هذه السورة، وقد علل بعضهم ترك الذكر بالاكتفاء بما في البقرة، وفيه أن نزولها متأخر عن نزول هذه السورة لأنها مدنية وهذه مكية فلا يصح الاكتفاء إحالة عليها قبل نزولها، وكون المراد اكتفاء السامعين للقرآن بعد ذلك لا يخفى حاله، ولعل القصة كانت معلومة سماعا منه صلّى الله عليه وسلم وكان عالمها بها بواسطة الوحي وإن لم تكن إذ ذاك نازلة قرآنا فاختصرت هاهنا لما ذكر في الكشف اكتفاء بذلك، وقال فيه أيضا: وذلك أن تقول التقاول بين الملائكة وآدم عليهم السلام حيث قال: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [البقرة: ٣١] تبكيتا لهم بما نسبوا إليه من قولهم أَتَجْعَلُ [البقرة: ٣٠] فيها وبينه وبين إبليس إما لأنه داخل في الإنكار والتبكيت بل هو أشدهم في ذلك لكن غلب الله تعالى الملائكة لأنه أخس من أن يقرن مع هؤلاء مفردا في الذكر أو لأنه أمر بالسجود لمعلمه فامتنع وأسمعه ما اسمع.

وقوله تعالى: إِذْ قالَ رَبُّكَ إلخ للإتيان بطرف مشتمل على قصة المقاولة وتصوير أصلها فلم يلزم منه أن يكون الرب جل شأنه من المقاولين وإن كان بينه سبحانه وبينهم تقاول قد حكاه الله تعالى، وهذا أقل تكلفا مما فيه دعوى أن تكليمه تعالى كان بواسطة الملك إذ للمانع أن يمنع التوسط على أصلنا وعلى أصل المعتزلة أيضا لا سيما إذا جعل المبكتون الملائكة كلهم، وعلى الوجهين ظهر فائدة إبدال إِذْ قالَ رَبُّكَ من إِذْ يَخْتَصِمُونَ على وجه بين، والاعتراض بأنه لو كان بدلا لكان الظاهر إذ قال ربي لقوله: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ فليس المقام مما يقتضي الالتفات غير قادح فإنه على أسلوب قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ [الزخرف: ٩، ١٠] فالخطاب بلكم نظرا إلى أنه من قول الله تعالى تمم قولهم وذنبه كذلك هاهنا هو من قول الله تعالى لتتميم قول النبي صلّى الله عليه وسلم وهذا على نحو ما يقول مخاطبك: جاءني الأمير فتقول الذي أكرمك وحباك أو يقول رأيت الأمير يوم الجمعة فتقول: يوم خلع عليك الخلعة الفلانية، ومنه علم أنه ليس من الالتفات في شيء وأن هذا الإبدال على هذا الأسلوب لمزيد الحسن انتهى، وجوز أن يقول: إن إِذْ قوله تعالى:

إِذْ قالَ رَبُّكَ ظرف ليختصمون، والمراد بالملأ الأعلى الملائكة وباختصامهم قولهم لله تعالى أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: ٣٠] في مقابلة قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ [البقرة: ٣٠] إلى غير ذلك، ولا يتوقف صحة إرادة ذلك على جعل الله تعالى من الملأ ولا على أنه سبحانه كلمهم بواسطة ملك ولا تقدم

<<  <  ج: ص:  >  >>