وجوز كون ذلك من باب المجاز المرسل، والأول أبلغ وأحسن، وهذان الوجهان في الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ قد ذكرهما الزمخشري، وظن بعضهم أن الداعي للأول ورعاية مذهب الاعتزال حيث خص فيه المغفرة بذنوب التائبين فتركه وقال: العزيز القادر على كل ممكن الغالب على كل شيء الغفار حيث لم يعاجل بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة وما علينا أن نفسر كما فسر ونقول بأن مغفرته تعالى لا تخص التائبين بل قد يغفر جل شأنه لغيرهم إلا أن التقييد ليلائم ما تقدم أتم ملاءمة، ففي الكشف أن الوجه الأول من ذينك الوجهين المذكورين يناسب قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ من وجهين أحدهما ما فيه من الدلالة على كمال القدرة وكمال الرحمة المقتضي لعقاب المصرّ وغفران ذنوب التائب، وثانيهما أن قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ إلخ مسوق لأمرين إثبات الوحدة والقهر المذكورين فيما قبل نفيا للولد بل حسبما للشرك من أصله والتسلق إلى ما مهد أولا من العبادة والإخلاص لئلا يزول عن الخاطر فقيل بِالْحَقِّ كما قيل هنالك إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [النساء: ١٠٥، المائدة: ٤٨، الزمر: ٢] وادمج فيه أن إنزال الكتاب كما يدل على استحقاقه تعالى للعبادة فكذلك خلق السماوات والأرض بالحق والحكمة التي منها الجزاء على ما سلف فالتذييل بالا هو العزيز الغفار للترغيب في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص والتحذير عن خلاف ذلك سواء خالف أصل الدين كالكفر أو خالف الإخلاص فيه كسائر المعاصي في غاية الملاءمة، وإنما أفرد مخالفة الدين بالذكر صريحا في قوله تعالى:«والذين اتخذوا» إلخ تحذيرا من حالهم لأنها هاتكة لعصمة النجاة فكانت أحق بالتحذير، ورمز إلى هذا الثاني بالتذييل المذكور تكميلا للمعنى المراد ومدار هذه السورة الكريمة على الأمر بالعبادة والإخلاص والتحذير من الكفر والمعاصي، والوجه الثاني من ذينك الوجهين يناسب حديث الشرك والتذييل به لتوكيد تفظيع ما نسبوا إليه، ولما ذكر تنزيل الكتاب وعقب بالأوصاف المقتضية للعبادة والإخلاص ذيله بقوله سبحانه:«ألا لله الدين الخالص» على ما تحقق وجهه وقد نقلناه نحن عنه فيما مر، ثم لما ذكر بعده عظيم ما نسبوا إليه سبحانه: من الشرك والأولاد وما دل على تنزهه تعالى بالألوهية ناسب أن يذيله بقوله تعالى: «ألا هو العزيز الغفار» للتوكيد المذكور، وقد آثر هذا العلامة الطيبي ويعلم مما ذكرنا وجه رجحان الأول اه، والوجه الثاني من وجهي المناسبة على الوجه الأول أولى الوجهين، والآية على ما ذكره البعض يجوز ارتباطها بما عندها من الخلق والتكوير والتسخير، وقوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إلخ دليل آخر على الوحدة والقهر.
وترك عطفه على خَلَقَ السَّماواتِ للإيذان باستقلاله في الدلالة ولتعلقه بالعالم السفلي، والبداءة بخلق الإنسان لأنه أقرب وأعجب بالنسبة إلى غيره باعتبار ما فيه من العقل وقبول الأمانة الإلهية وغير ذلك حتى قيل:
وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
والمراد بالنفس آدم عليه السلام، وقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي حواء فإنها خلقت من قصيري ضلعه عليه السلام اليسرى وهي أسفل الأضلاع على معنى أنها خلقت من بعضها أو خلقت منها كلها وخلق الله تعالى لآدم مكانها عطف على محذوف هو صفة ثانية لنفس أي من نفس واحدة خلقها ثم جعل منها زوجها، أو على واحِدَةٍ لأنه في الأصل اسم مشتق فيجوز عطف الفعل عليه كقوله تعالى:«فالق الإصباح وجعل الليل سكنا» ويعتبر ماضيا لأن اسم الفاعل قد يكون للمضي إذا لم يعمل أي من نفس وحدت من جعل منها زوجها ورجح بسلامته من التقدير الذي هو خلاف الأصل أو على خَلَقَكُمْ لتفاوت ما بينهما في الدلالة فإنهما وإن كانتا آيتين دالتين على ما مر من الصفات الجليلة لكن خلق حواء من الضلع أعظم وأجلب للتعجب ولذا عبر بالجعل دون الخلق فثم للتراخي الرتبي، ويجوز فيه كون الثاني أعلى مرتبة من الأول وعكسه، وقيل: إنه تعالى أخرج ذرية آدم عليه السلام من