ويشهد لذلك ما
أخرجه الإمام أحمد في مسنده. وابن جرير وابن أبي حاتم. وابن مردويه. والبيهقي في شعب الإيمان عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إلى آخر الآية فقال رجل: يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت النبي صلّى الله عليه وسلم ساعة ثم قال: إلا ومن أشرك ثلاث مرات»
لا يقال المغفرة لمن أشرك بشرط الإسلام أمر واضح فلا يجوز أن تخفى على السائل وعليه عليه الصلاة والسلام حتى يسكت لانتظار الوحي أو الاجتهاد لأنا نقول: السؤال للاستبعاد من حيث العادة والسكوت لتعليم سلوك طريق التأني والتدبر وإن كان الأمر واضحا.
وقيل: الظاهر أنه لانتظار الإذن أو الاجتهاد في التصريح بعموم المغفرة فإنهم ربما اتكلوا على ذلك فيخشى التفريط في العمل وهو لا ينافي التعليم فإنه عليه الصلاة والسلام إنما يعلمهم التدبر بعد أن يتدبر هو في نفسه صلّى الله عليه وسلم.
وزعم أن الحديث دال على اشتراط التوبة ليس بشيء، ويؤيد إطلاق المغفرة عن قيد التوبة ما
أخرجه الإمام أحمد وعبد ابن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد قالت: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم»
فإنه ليس للا يبالي كثير حسن إن كانت المغفرة مشروطة بالتوبة كما لا يخفى، وكذا ما
أخرجه ابن جرير عن ابن سيرين قال: قال علي كرم الله تعالى وجهه أي آية أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
[النساء: ١١٠] الآية ونحوها فقال علي كرم الله تعالى وجهه: ما في القرآن أوسع آية من يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية.
والمؤكدات السابقة أعني السبعة عشر لا يخلو بعضها عن بحث، والظاهر أن مغفرة ذنب لا تجامع العذاب عليه أصلا، وذهب بعضهم إلى أنها تجامعه إذا كان أنقص من الذنب لا إذا كان بمقداره فمن عذب بمقدار ذنبه في النار، وأخرج منها لا يقال إنه غفر له إذ السيئات إنما تجزى بأمثالها، وقيل: تجامعه مطلقا وكون السيئات لا تجزى إلا بأمثالها بلطفه تعالى أيضا فهو نوع من عفوه عزّ وجلّ وفيه ما فيه فتأمل، وأصل الإنابة الرجوع.
ومعنى وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ إلخ أي ارجعوا إليه سبحانه بالإعراض عن معاصيه والندم عليها، وقيل: بالانقطاع إليه تعالى بالعبادة وذكر الرب كالتنبيه على العلة، وقال القشيري: الإنابة الرجوع بالكلية، والفرق بين الإنابة والتوبة أن التائب يرجع من خوف العقوبة والمنيب يرجع استحياء لكرمه تعالى، والإسلام له سبحانه الإخلاص في طاعاته عزّ وجلّ، وذكر أن الإخلاص بعد الإنابة أن يعلم العبد أن نجاته بفضل الله تعالى لا بإنابته فبفضله سبحانه وصل إلى إنابته لا بإنابته وصل إلى فضله جل فضله. وعن ابن عباس من حديث أخرجه ابن جرير وابن المنذر عنه «من آيس العباد من التوبة فقد جحد كتاب الله تعالى ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله تعالى عليه» وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الظاهر أنه خطاب للعباد المخاطبين فيما تقدم سواء أريد بهم المؤمنون أو ما يعمهم والكافرين، والمراد بما أنزل القرآن وهو كما أنزل إلى المؤمنين أنزل إلى الكافرين ضرورة أنه أنزل عليه صلّى الله عليه وسلم لدعوة الناس كافة، والمراد بأحسنه ما تضمن الإرشاد إلى خير الدارين دون القصص ونحوها أو المأمور به أو العزائم أو الناسخ، وأفعل على الأول والثالث على ظاهره وعلى الثاني والرابع فيه احتمالان وقيل: لعل الأحسن ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة وأفعل فيه على ظاهره أيضا، وجوز أن يكون الخطاب للجنس، والمراد بما أنزل الكتب السماوية وبأحسنه القرآن، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر، وفي ذكر الرب ترغيب في الاتباع مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً