وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي بما قصدتم من الأيمان وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم، ولا يعارض هذه الآية ما في المائدة [٨٩] من قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ إلخ بناء على أن مقتضى هذه المؤاخذة بالغموس لأنها من كسب القلب وتلك تقتضي عدمها لأن اللغو فيها خلاف المعقودة، وهي ما يحلف فيها على أمر في المستقبل أن يفعل ولا يفعل لوقوعه في مقابلة قوله سبحانه: بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فيتناول الغموس وهو الحلف على أمر ماض متعمد الكذب فيه ولغويته لعدم تحقق البر فيه الذي هو فائدة اليمين الشرعية لأن الشافعي حمل بما عقدتم على كسب القلب من عقدت على كذا عزمت عليه، ولم يعكس لأن العقد مجمل يحتمل عقد القلب، ويحتمل ربط الشيء بالشيء، والكسب مفسر، ومن القواعد حمل المجمل على المفسر، وإذا حمل عليه شمل الغموس، وكان اللغو ما لا قصد فيه لا خلاف المعقودة إذ لا معقودة فتتحد الآيتان في المؤاخذة على الغموس وعدم المؤاخذة على اللغو إلا أنه إن كان للفعل المنفي عموم كان في الآيتين نفي المؤاخذة فيما لا قصد فيه بالعقوبة، والكفارة وإثبات المؤاخذة في الجملة بهما أو بأحداهما فيما فيه قصد، وإن لم يكن له عموم حمل المؤاخذة المطلقة في هذه الآية على المؤاخذة المقيدة بالكفار في آية المائدة بناء على اتحاد الحادثة والحكم وسوق الآية لبيان الكفارة فلا تكرار، وأيد العموم بما
أخرجه ابن جرير عن الحسن أنه صلى الله تعالى عليه وسلم «مر بقوم ينتصلون ومعه بعض أصحابه فرمى رجل من القوم فقال: أصبت والله أخطأت والله، فقال الذي معه: حنث الرجل يا رسول الله فقال كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة»
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن اللغو هنا ما لا قصد فيه إلى الكذب بأن لا يكون فيه قصد أو يكون بظن الصدق، وحمل المؤاخذة على الأخروية بناء على أن دار المؤاخذة هي الآخرة وأن المطلق ينصرف إلى الكامل وقرنت هذه المؤاخذة بالكسب إذ لا عبرة للقصد وعدمه في وجوب الكفارات التي هي مؤاخذات دنيوية، لا شك أنه بمجرد اليمين بدون الحنث لا تتحقق المؤاخذة الأخروية في المعقودة فلا يمكن إجراء ما كسبت على عمومه فلا بد من تخصيصه بالغموس فيتحصل من هذه الآية المؤاخذة الأخروية في الغموس دون الدنيوية التي هي الكفارة، وفيه خلاف الشافعي وعدم المؤاخذة الأخروية فيما عداها مما فيه قصد بظن الصدق، ومما لا قصد فيه أصلا- وفيه وفاق الشافعي- وحمل المؤاخذة في آية المائدة على الدنيوية بقرينة قوله سبحانه فيها: فَكَفَّارَتُهُ إلخ، وقوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ على المعقودة لأن المتبادر من- العقد- ربط الشيء بالشيء وهو ظاهر في «المعقودة» فالمراد بِاللَّغْوِ وفي تلك الآية ما عداها من الغموس وغيره فيتحصل منها عدم المؤاخذة الدنيوية- بالكفارة- على غير المعقودة، وهي الغموس والمؤاخذة عليه في الآخرة- كما علم من آية البقرة- والحلف بلا قصد أو به مع ظن الصدق لغير المؤاخذة عليهما في الآخرة كما علم منها أيضا، والمؤاخذة الدنيوية على المعقودة التي لم يعلم حكمها في الآخرة من الآيتين لظهوره من ترتب المؤاخذة الدنيوية عليه- فلا تدافع بين الآيتين عنده أيضا- لأن مقتضى الأولى تحقق المؤاخذة الأخروية في الغموس، ومقتضى الثانية عدم المؤاخذة الدنيوية فيه، ومن هذا يعلم أن ما في- الهداية- وشاع في كتب الأصحاب عن الإمام حيث قال: إن الأيمان على ثلاثة أضرب: يمين الغموس ويمين منعقدة ويمين لغو وبين حكم كل وفسر الأخير بأن يحلف على ماض وهو يظن- كما قال- والأمر بخلافه، وثبت في بعض الروايات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وغيره- ليس بشيء- لو كان المقصود بما في التفسير «الحصر» لا التمثيل للغو لأن اللائق بالنظم أن يكون بِما كَسَبَتْ مقابلا للغو من غير واسطة بينهما، وبقصد «الحصر» يبقى اليمين الذي لا قصد معه واسطة بينهما غير معلوم الاسم ولا الرسم، وهو مما لا يكاد يكون كما لا يخفى على المنصف فليتدبر فإنه مما فات كثيرا من