وظاهر كلام الكشاف أن (ادعوا) إلخ مسبب عن الإنابة وأن فيه التفاتا حيث قال: ثم قال للمنيبين والأصل فليدع ذلك المنيب، على معنى إن صحت الإنابة على نحو فقد جئنا خراسانا، وقد وافق على كونه خطابا لمن ذكر غير واحد. وفي الكشف التحقيق أن قوله تعالى: وَما يَتَذَكَّرُ إلخ اعتراض وقوله سبحانه: فَادْعُوا اللَّهَ مسبب عن قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ على أنه خطاب يعم المؤمن والكافر لسبق ذكرهما لا للكفار وحدهم على نحو مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذ ليس مما نودوا به يوم القيامة، والمعنى فادعوه فوضع الظاهر موضع المضمر ليتمكن فضل تمكن وليشعر بأن كونه تعالى هو المعبود بحق هو الذي يقتضي أن يعبد وحده. وفائدة الاعتراض أن هذه الآيات ودلالتها على اختصاصه سبحانه وحده بالعبادة بالنسبة إلى من ينيب لا المعاند.
وقوله في الكشاف: ثم قال للمنيبين إشارة أن فائدة تقديم الاعتراض أن الانتفاع بالآيات على هذا التقدير فكأنه مسبب عن الإنابة معنى لما كان تسبب السابق للاحق الإنابة، فهذا هو الوجه ولا يأباه تفسير وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ بقوله: وإن غاظ ذلك أعداءكم فإنه للتنبيه على أن امتثال ذلك الأمر إنما يكون بعد إنابتهم وكأن قد حصل ذلك وحصل التضاد بينهم وبين الكافرين، وهو تحقيق حقيق بالقبول لكن في توجيه كلام الكشاف تكلف ظاهر رَفِيعُ الدَّرَجاتِ صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها من رفع الشيء بالضم إذا علا، وجوز أن يكون صيغة مبالغة من باب أسماء الفاعلين وأضيف إلى المفعول وفيه بعد، والدَّرَجاتِ مصاعد الملائكة عليهم السلام إلى أن يبلغوا العرش أي رفيع درجات ملائكته ومعارجهم إلى عرشه.
وفسرها ابن جبير بالسماوات ولا بأس بذلك فإن الملائكة يعرجون من سماء إلى سماء حتى يبلغوا العرش إلا أنه جعل «رفيعا» اسم فاعل مضافا إلى المفعول فقال: أي رفع سماء فوق سماء والعرش فوقهن، وقد سمعت آنفا أن فيه بعدا، ووصفه عزّ وجلّ بذلك للدلالة على سبيل الإدماج على عزته سبحانه وملكوته جل شأنه.
ويجوز أن يكون كناية عن رفعة شأنة وسلطانه عز شأنه وسلطانه كما أن قوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ كناية عن ملكه جل جلاله، ولا نظر في ذلك إلى أن له سبحانه عرشا أو لا، فالكناية وإن لم تناف إرادة الحقيقة لكن لا تقتضي وجوب إرادتها فقد وقد وعن ابن زيد أنه قال: أي عظيم الصفات وكأنه بيان لحاصل المعنى الكنائي، وقيل: هي درجات ثوابه التي ينزلها أولياءه تعالى يوم القيامة، وروي ذلك عن ابن عباس وابن سلام، وهذا أنسب بقوله تعالى:
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ والمعنى الأول أنسب بقوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ لتضمنه ذكر الملائكة عليهم السلام وهم المنزلون بالروح كما قال سبحانه: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النحل: ٢] وأيا ما كان- فرفيع الدرجات- وذُو الْعَرْشِ وجملة يُلْقِي أخبار ثلاثة قيل:- لهو- السابق في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ إلخ واستبعده أبو حيان بطول الفصل، وقيل: لهو محذوفا، والجملة كالتعليل لتخصيص العبادة وإخلاص الدين له تعالى، وهي متضمنة بيان إنزال الرزق الروحاني بعد بيان إنزال الرزق الجسماني في يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً فإن المراد بالروح على ما روي عن قتادة الوحي وعلى ما روي عن ابن عباس القرآن وذلك جار من القلوب مجرى الروح من الأجساد، وفسره الضحاك بجبريل عليه السلام وهو عليه السلام حياة القلوب باعتبار ما ينزل به من العلم.
وجوز ابن عطية أن يراد به كل ما ينعم الله تعالى به على عباده المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة وهو كما ترى، وقوله تعالى: مِنْ أَمْرِهِ قيل: بيان للروح، وفسر بما يتناول الأمر والنهي، وأوثر على لفظ الوحي للإشارة إلى أن اختصاص حياة القلوب بالوحي من جهتي التخلي والتحلي الحاصلين بالامتثال والانتهاء. وعن ابن عباس تفسير الأمر بالقضاء فجعلت مِنْ ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع حالا من الرُّوحَ أي ناشئا من أمره أو