مطرد، وقال أبو حيان: إنما التقدير لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم، وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر إذ علقوا ذلك بإنزال الملائكة وهو سبحانه لم يشأ ذلك فكيف يشاؤوه في البشر وهو وجه حسن.
فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي بالذي أرسلتم به على زعمكم، وفيه ضرب تهكم بهم كافِرُونَ لما أنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا، والفاء فاء النتيجة السببية فيكون في الكلام إيماء إلى قياس استثنائي أي لكنه لم ينزل، ويجوز أن تكون تعليلية لشرطيتهم أي إنما قلنا ذلك لأنا منكرون لما أرسلتم به كما ننكر رسالتكم، و (ما) كما أشرنا إليه موصولة، وكونها مصدرية وضمير بِهِ لقولهم: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ خلاف الظاهر،
أخرج البيهقي في الدلائل.
وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: قال أبو جهل والملأ من قريش قد التبس علينا أمر محمد صلى الله عليه وسلم فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما وما يخفى عليّ إن كان كذلك فأتاه فقال له يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب؟ فلم يجبه قال: فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك، وإن كان المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم فلما فرغ قال عليه الصلاة والسلام:«بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا- فقرأ حتى بلغ- فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود» فأمسك عتبة علي فيه عليه الصلاة والسلام فأنشده الرحم أن يكف عنه ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قال أبو جهل: يا معشر قريش ما أرى عقبة إلا قد صبا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته انتقلوا بنا إليه فأتوه فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كنت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد صلى الله عليه وسلم فغضب وأقسم بالله تعالى لا يكلم محمدا عليه الصلاة والسلام أبدا وقال: لقد علمتم أني أكثر قريش مالا ولكني أتيته فقص عليهم القصة فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة قرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا حتى أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه وناشدته الرحم فكف وقد علمتم أن محمدا صلى الله عليه وسلم إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب»
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ شروع في تفصيل ما لكل واحدة من الطائفتين من الجناية والعذاب، ولتفرع التفصيل على الإجمال قرن بفاء السببية، وبدىء بقصة عاد لأنها أقدم زمانا أي فأما عاد فتعظموا في الأرض التي لا ينبغي التعظم فيها على أهلها بِغَيْرِ الْحَقِّ أي بغير استحقاق للتعظم.
وقيل: تعظموا عن امتثال أمر الله عزّ وجلّ وقبول ما جاءتهم به الرسل وَقالُوا اغترارا بقوتهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أي لا أشد منا قوة فالاستفهام إنكاري، وهذا بيان لاستحقاقهم العظمة وجواب الرسل عما خوفوهم به من العذاب، وكانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم وقد بلغ من قوتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل ويرفعها بيده أَوَلَمْ يَرَوْا أي أغفلوا ولم ينظروا أو ولم يعلموا علما جليا شبيها بالمشاهدة والعيان أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة فإنه تعالى قادر بالذات مقتدر على ما لا يتناهى قوي على ما لا يقدر عليه غيره عزّ وجلّ مفيض للقوة والقدر على كل قوي وقادر، وفي هذا إيماء إلى أن ما خوفهم به الرسل ليس من عند أنفسهم بناء على قوة منهم وإنما هو من الله تعالى خالق القوى والقدر وهم يعلمون أنه عزّ وجلّ أشد قوة منهم، وتفسير القوة بالقدرة لأنه أحد معانيها كما يشير إليه كلام الراغب.