زيدا افترى عليك وأنت تعلم أنه لم يفتر وإنما أدى عنك ما أمرته به فإذن نؤدبه وننتقم منه ونمحو افتراءه تقصد بذلك التهكم بالقائل فتأمل، فهذه الآية كما قال الخفاجي من أصعب ما مر في كلامه تعالى العظيم وفقنا الله تعالى وإياكم لفهم معانيه والوقوف على سره وخافيه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فيعلم سبحانه ما في صدرك وصدورهم فيجري جلّ وعلا الأمر على حسب ذلك.
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ بالتجاوز عما تابوا عنه والقبول يعدى بعن لتضمنه معنى الإبانة وبمن لتضمنه معنى الأخذ كما في قوله تعالى: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ [التوبة: ٥٤] أي تؤخذ، وقيل: القبول مضمن هنا معنى التجاوز والكلام على تقدير مضاف أي يقبل التوبة متجاوزا عن ذنوب عباده وهو تكلف.
والتوبة أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب في الحال ويندم على ما مضى ويعزم على تركه في المستقبل وزادوا التقصي منه بأي وجه أمكن إن كان الذنب لعبد فيه حق وذلك بالرد إليه أو إلى وكيله أو الاستحلال منه إن كان حيا وبالرد إلى ورثته إن كان ميتا ووجدوا ثم القاضي لو كان أمينا وهو كالإكسير ومن رأى الإكسير؟ فإن لم يقدر على شيء من ذلك يتصدق عنه والا يدع له ويستغفر.
وفي الكشف التقصي داخل في الرجوع إذ لا يصح الرجوع عنه وهو ملتبس به بعد، واختير أن حقيقتها الرجوع وإنما الندم والعزم ليكون الرجوع إقلاعا ويتحقق أنه التوبة التي ندبنا إليها وهو موافق لما في الاحياء من أنها اسم لتلك الحالة بالحقيقة والباقي شروط التحقق ويشترط أيضا أن يكون الباعث على الرجوع مع الندم والعزم دينيا فلو رجع لمانع آخر من ضعف بدن أو غرم لذلك لم يكن من التوبة في شيء، وأشار الزمخشري إلى ذلك بكون الرجوع لأن المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب وخرج عنه ما لو رجع طلبا للثناء أو رياء أو سمعة لأن قبح القبيح معناه كونه مقتضيا للعقاب آجلا وللذم عاجلا فلو رجع لما سبق لم يكن رجوعا لذلك.
وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر فلما فرغ من صلاته قال له علي كرم الله وجهه: إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين وتوبتك تحتاج إلى التوبة فقال يا أمير المؤمنين: ما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب الندامة ولتضيع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته
، وهذا يحتمل أن تكون التوبة مجموع هذه الأمور فالمراد أكمل أفرادها، ويحتمل أنها اسم لكل واحد منها والأول أظهر. واختلف في التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض هل هي صحيحة أم لا والذي عليه الأصحاب أنها صحيحة لظواهر الآيات والأحاديث وصدق التعريف عليها، وأكثر المعتزلة على أنها غير صحيحة قال أبو هاشم منهم: لو تاب عن القبيح لكونه قبيحا وجب أن يتوب عن كل القبائح وإن تاب عنه لا لمجرد قبحه بل لغرض آخر لم تصح توبته. وتعقب بأنه يجوز أن يكون الباعث شدة القبح أو أمرا دينيا آخر وأيضا يجري نظير هذا في فعل الحسن بل يقال: لو فعل الحسن لكونه حسنا وجب عليه أن يفعل كل حسن وإن فعله لغرض آخر لم يقبل وفيه بحث.
واستدل المعتزلة بالآية على أنه يجب عليه تعالى قبول التوبة واستدل أهل السنة بها على عدم الوجوب لمكان التمدح ولا تمدح بالواجب، وفيه أيضا بحث والأنفع في هذا المقام أدلة نفي الوجوب مطلقا عليه عز وجل. وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ صغائرها وكبائرها لمن يشاء من غير اشتراط شيء كالتوبة للكبائر واجتنابها للصغائر.
وقال الطيبي: المعنى من شأنه تعالى شأنه قبول التوبة عن عباده إذا تابوا والعفو عن سيئاتهم بمحض رحمته أو