من حيث المعنى على ما زعم أبو حيان لا من حيث اللفظ قال: لأن من مبتدأ فلو طابق في اللفظ لكان بالاسم مبتدأ دون الفعل بأن يقال: العزيز العليم خلقهن الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً مكانا ممهدا أي موطأ ومآله بسطها لكم تستقرون فيها ولا ينافي ذلك كريتها لمكان العظم، وعن عاصم أنه قرأ «مهدا» بدون ألف وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا طرقا تسلكونها في أسفاركم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم أو بالتفكر فيها إلى التوحيد الذي هو المقصد الأصلي وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي بمقدار تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم والمصالح ولا يعلم مقدار ما ينزل من ذلك في كل سنة على التحقيق إلا الله عزّ وجلّ، والآلة التي صنعها الفلاسفة في هذه الأعصار المسماة بالأودوميتر يزعمون أنه يعرف بها مقدار المطر النازل في كل بلد من البلاد في جميع السنة لا تفيد تحقيقا في البقعة الواحدة الصغيرة فضلا عن غيرها كما لا يخفى على المنصف. وفي البحر بقدر أي بقضاء وحتم في الأزل، والأول أولى فَأَنْشَرْنا بِهِ أي أحيينا بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً خالية عن النماء والنبات بالكلية.
وقرأ أبو جعفر وعيسى «ميّتا» بالتشديد، وتذكيره لأن البلدة في معنى البلد والمكان، قال الجلبي: لا يبعد والله تعالى أعلم أن يكون تأنيث البلد وتذكير مَيْتاً إشارة إلى بلوغ ضعف حاله الغاية، وفي الكلام استعارة مكنية أو تصريحية.
والالتفات في (أنشرنا) إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظم خطره كَذلِكَ أي مثل ذلك الانشار الذي هو في الحقيقة إخراج من الأرض وهو صفة مصدر محذوف أي انشارا كذلك تُخْرَجُونَ أي تبعثون من قبوركم أحياء، وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الذي هو إحياء الموتى وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث، وفي ذلك من الرد على منكريه ما فيه.
وقرأ ابن وثاب وعبد الله بن جبير وعيسى وابن عامر والأخوان «تخرجون» مبينا للفاعل.
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي أصناف المخلوقات فالزوج هنا بمعنى الصنف لا بمعناه المشهور، وعن ابن عباس الأزواج الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى، وقيل: كل ما سوى الله سبحانه زوج لأنه لا يخلو من المقابل كفوق وتحت ويمين وشمال وماض ومستقبل إلى غير ذلك والفرد المنزع عن المقابل هو الله عزّ وجلّ، وتعقب بأن دعوى اطراده في الموجودات بأسرها لا تخلو عن النظر.
ولعل من قال: كل ما سوى الله سبحانه زوج لم يبن الأمر على ما ذكر وإنما بناه على أن الواجب جلّ شأنه واحد من جميع الجهات لا تركيب فيه سبحانه بوجه من الوجوه لا عقلا ولا خارجا ولا كذلك شيء من الممكنات مادية كانت أو مجردة وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ أي ما تركبونه، فما موصولة والعائد محذوف، والركوب بالنظر إلى الفلك يتعدى بواسطة الحرف وهو في كما قال تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [العنكبوت:
٦٥] بخلافه لا بالنظر إليه فإنه يتعدى بنفسه كما قال سبحانه: لِتَرْكَبُوها [النحل: ٨] إلا أنه غلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المتعدي بواسطة فالتجوز الذي يقتضيه التغليب بالنسبة إلى المتعلق أو غلب المخلوق للركوب على المصنوع له لكونه مصنوع الخالق القدير أو الغالب على النادر فالتجوز في ما وضميره الذي تعدى الركوب إليه بنفسه دون النسبة إلى المفعول ولتغليب ما ركب من الحيوان على الفلك لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ حيث عبر عن القرار على الجميع بالاستواء على الظهور المخصوص بالدواب والضمير. لما تركبون. وأفرد رعاية للفظ، وجمع ظهور مع إضافته إليه رعاية لمعناه، والظاهر أن لام لِتَسْتَوُوا لام كي، وقال الحوفي: من أثبت لا بالصيرورة جاز له أن