جرى بين المنذرين وبين أممهم عند تعللهم بتقليد آبائهم أي قال: كل نذير من أولئك المنذرين لأمته أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ أي أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بِأَهْدى بدين أهدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء، وإنما عبر عنها بذلك مجاراة معهم على مسلك الإنصاف.
وقرأ الأكثرون «قل» على أنه حكاية أمر ماض أوحي إلى كل نذير أي فقيل أو قلنا للنذير قل إلخ، واستظهر في البحر كونه خطابا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم، والظاهر هو ما تقدم لقوله تعالى:
قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فإنه ظاهر جدا في أنه حكاية عن الأمم السالفة أي قال كل أمة لنذيرها إنا بما أرسلتم به إلخ وقد أجمل عند الحكاية للإيجاز كما قرر في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون:
٥١] .
وجعله حكاية عن قومه عليه الصلاة والسلام بحمل صيغة الجمع على تغليبه صلّى الله عليه وسلّم على سائر المنذرين وتوجيه كفرهم إلى ما أرسل به الكل من التوحيد لإجماعهم عليهم السلام عليه كما في نحو قوله تعالى: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: ١٢٣] تمحل بعيد، وأيضا يأباه ظاهر قوله سبحانه: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فإن ظاهره كون الانتقام بعذاب الاستئصال وصاحب البحر يحمله على الانتقام بالقحط والقتل والسبي والجلاء.
وقرأ أبي وأبو جعفر وشيبة وابن مقسم والزعفراني وغيرهم «أو لو جئناكم» بنون المتكلمين وهي تؤيد ما ذهبنا إليه والأمر بالنظر فيما انتهى إليه حال المكذبين تسلية له صلّى الله عليه وسلّم وإرشاد إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه إياه عليه الصلاة والسلام وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ أي واذكر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام لِأَبِيهِ آزر وَقَوْمِهِ المكبين على التقليد كيف تبرأ مما هم فيه بقوله:
إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ وتمسك بالبرهان، والكلام تمهيد لما أهل مكة فيه من العناد والحسد والإباء عن تدبر الآيات وأنهم لو قلدوا آباءهم لكان الأولى أن يقلدوا أباهم الأفضل الأعلم الذي هم يفتخرون بالانتماء إليه وهو إبراهيم عليه السلام فكأنه بعد تعييرهم على التقليد يعيرهم على أنهم مسيئون في ترك اختياره أيضا. وبراء مصدر كالطلاق نعت به مبالغة ولذلك يستوي فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث.
وقرأ الزعفراني والقورصي عن أبي جعفر وابن المناذري عن نافع «براء» بضم الباء هو اسم مفرد كطوال وكرام بضم الكاف، وقرأ الأعمش «بري» وهو وصف كطويل وكريم وقراءة العامة لغة العالية وهذه لغة نجد.
وقرأ الأعمش أيضا «إنّي» بنون مشددة دون نون الوقاية إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي استثناء متصل إن قلنا إن ما عامة لذوي العلم وغيرهم وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى والأصنام وليس هذا من الجمع بين الله تعالى وغيره سبحانه الذي يجب اجتنابه لما فيه من إيهام التسوية بينه سبحانه وبين غيره جل وعلا لظهور ما يدل على خلاف ذلك في الكلام أو منقطع بناء على أن ما مختصة بغير ذوي العلم وأنه لا يناسب التغليب أصلا وأنهم لم يكونوا يعبدونه تعالى أو أنهم كانوا يعبدونه عز وجل إلا أن عبادته سبحانه مع الشرك في حكم العدم، وعلى الوجهين محل الموصول النصب، وأجاز الزمخشري أن يكون في محل جر على أنه بدل من ما المجرور بمن، وفيه بحث لأنه يصير استثناء من الموجب ولم يجوزوا فيه البدل، ووجهه أنه في معنى النفي لأنه معنى إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ لا أعبد ما تعبدون فهو نظير قوله تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: ٣٢] إلا أن ذلك في المفرغ وهذا فيما ذكر فيه المستثنى منه وهم لا يخصونه بالمفرغ ولا بألفاظ مخصوصة أيضا كأبى وقلما، نعم إن أبا حيان يأبى إلا أنه موجب ولا يعتبر النفي معنى،