وقرأ ابن عامر «إنكم» بكسر الهمزة وهو تقوى ما ذكر أولا من إضمار الفاعل وتقدير اللام في أنكم معنى ولفظا لأنه لا يمكن أن يكون فاعلا فيتعين الإضمار، ولأن الجملة عليها تكون استئنافا تعليليا فيناسب تقدير اللام لتتوافق القراءتان، وقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ إنكار تعجيب من أن يكون صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يقدر على هدايتهم وهو قد تمرنوا في الكفر واعتادوه واستغرقوا في الضلال بحيث صار ما بهم من العشى عمى مقرونا بالصمم وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عطف على العمى باعتبار تغاير الوصفين أعني العمى والضلال بحسب المفهوم وإن اتحدا مآلا، ومدار الإنكار هو التمكن والاستقرار في الضلال المفرط الذي لا يخفى لا توهم القصور منه عليه الصلاة والسلام ففيه رمز إلى أنه لا يقدر على ذلك إلا الله وحده بالقسر والإلجاء وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يبالغ في المجاهدة في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا غيا وتعاميا عما يشاهدونه من شواهد النبوة وتصاما عما يسمعونه من بينات القرآن فنزلت أَفَأَنْتَ إلخ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فإن قبضناك قبل أن نبصرك عذابهم ونشفي بذلك صدرك وصدور المؤمنين فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ لا محالة في الدنيا والآخرة واقتصر بعضهم على عذاب الآخرة لقوله تعالى في آية أخرى: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ [غافر: ٧٧] والقرآن يفسر بعضه بعضا، وما ذكرنا أتم فائدة وأوفق بإطلاق الانتقام، وأما تلك الآية فليس فيها ذكره، وما مزيدة للتأكيد وهي بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة.
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ أي أو أردنا أن نريك العذاب الذي وعدناهم فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ بحيث لا مناص لهم من تحت ملكنا وقهرنا واعتبار الإرادة لأنها أنسب بذكر الاقتدار بعد، وفي التعبير بالوعد وهو سبحانه لا يخلف الميعاد إشارة إلى أنه هو الواقع، وهكذا كان إذ لم يفلت أحد من صناديدهم في بدر وغيرها إلا من تحصين بالإيمان، وقرىء «نرينك» بالنون الخفيفة فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تسلية له صلّى الله عليه وسلّم وأمر له عليه الصلاة والسلام أو لأمته بالدوام على التمسك بالآيات والعمل بها، والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا كان أحد هذين الأمرين واقعا لا محالة فاستمسك بالذي أوحيناه إليك، وقوله تعالى: إِنَّكَ إلخ تعليل للاستمساك أو للأمر به.
وقرأ بعض قراء الشام «أوحي» بإسكان اللام، وقرأ الضحاك «أوحى» مبنيا للفاعل وَإِنَّهُ أي ما أوحى إليك والمراد به القرآن لَذِكْرٌ لشرف عظيم لَكَ وَلِقَوْمِكَ هم قريش على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد.
وأخرج ابن عدي وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما قالا: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرض نفسه على القبائل بمكة ويعدهم الظهور فإذا قالوا: لمن الملك بعدك أمسك فلم يجبهم بشيء لأنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ فكان صلّى الله عليه وسلّم بعد إذا سئل قال لقريش:
فلا يجيبونه حتى قبلته الأنصار على ذلك.
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عدي بن حاتم قال:«كنت قاعدا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ألا إن الله تعالى علم ما في قلبي من حبي لقومي فبشرني فيهم فقال سبحانه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ الآية فجعل الذكر والشرف لقومي في كتابه» الحديث
،
وفيه «فالحمد لله الذي جعل الصديق من قومي والشهيد من قومي إن الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريش وهي الشجرة المباركة إلى أن قال عدي: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر عنده قريش بخير قط إلا سره حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم وكان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يتلو هذه الآية وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ إلخ
، وقيل هم العرب مطلقا لما أن القرآن نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص