للدعوى الأولى على وجه أخصر وأشمل إذ دلّ فيه على أن كونه مصدقا كاف شهد شاهد بني إسرائيل أو لا، وإن قيل: نزلوا لعنادهم منزلة من لا يعرف أن كتاب موسى قبله إذ لو عرفوا وقد تبين أنه مثله لأذعنوا فقيل: وَمِنْ قَبْلِهِ لا من بعده لكان وجها موفى فيه حق الاختصاص كما آثره السكاكي من أنه لازم التقديم انتهى. وهو ظاهر في أن الجملة ليست حالية.
وجوز كون لِساناً مفعولا لمصدق. والكلام بتقدير مضاف أي ذا لسان عربي وهو النبي عليه الصلاة والسلام وتصديقه إياه بموافقته كتاب موسى أو الكتب السماوية مطلقا وإعجازه، وجوز على المفعولية كون «هذا» إشارة إلى كتاب موسى فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، ويراد بلسانا عربيا: القرآن، ووضعت الإشارة موضع الضمير للتعظيم، والأصل وهو مصدق لسانا عربيا، وقيل: هو منصوب بنزع الخافض أي مصدق بلسان عربي والكل كما ترى. وقرأ الكلبي «ومن قبله» بفتح الميم «كتاب موسى» بالنصب، وخرجت على أن من موصولة معمولة لفعل مقدر وكذا كِتابُ أي وآتينا الذين كانوا قبل نزول القرآن من بني إسرائيل كتاب موسى.
لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا متعلق بمصدق. وفيه ضمير للكتاب أو لله تعالى أو للرسول عليه الصلاة والسلام، ويؤيد الأخير قراءة أبي رجاء وشيبة والأعرج وأبي جعفر وابن عامر ونافع وابن كثير في رواية «لتنذر» بتاء الخطاب فإنه لا يصلح بدون تكلف لغير الرسول، والتعليل صحيح على الكل، ولا يتوهم لزوم حذف اللام على أن الضمير للكتاب لوجود شرط النصب لأنه شرط الجواز وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ عطف على المصدر الحاصل من أن والفعل، وقال الزمخشري: وتبعه أبو البقاء هو في محل النصب معطوف على محل لِيُنْذِرَ لأنه مفعول له، وزعم أبو حيان أن ذلك لا يجوز على الصحيح من مذهب النحويين لأن المحل ليس بحق الأصالة وهم يشترطون في الحمل عليه ذلك إذ الأصل في المفعول له الجر، والنصب ناشىء من نزع الخافض لكنه كثر بشرطه، وحكى في إعرابه أوجها فقال: قيل معطوف على مُصَدِّقٌ وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي هو بشرى، وقيل: منصوب بفعل محذوف معطوف على (ينذر) أي ويبشر بشرى، وقيل: منصوب بنزع الخافض أي ولبشرى، والظاهر أن (المحسنين) في مقابلة الَّذِينَ ظَلَمُوا والمراد بالأول الكفرة وبالثاني المؤمنون. وفي شرح الطيبي إنما عدل عن العادلين إلى (المحسنين) ليكون ذريعة إلى البشارة بنفي الخوف والحزن لمن قالوا: ربنا الله ثم استقاموا، وقيل:(المحسنين) دون الذين أحسنوا بعد قوله تعالى: الَّذِينَ ظَلَمُوا ليكون المعنى لينذر الذين وجد منهم الظلم ويبشر الذين ثبتوا واستقاموا على الصراط السوي فيناسب تعليل البشارة بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا إلى آخره أي إن الذين جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الدين التي هي منتهى العمل، وثُمَّ للتراخي الرتبي فالعمل متراخي الرتبة عن التوحيد، وقد نصوا على أنه لا يعتد به بدونه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوات محبوب، والمراد استمرار النفي، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط مع بقاء معنى الابتداء فلا تدخل في خبر ليت ولعل وكان وإن كانت أسماؤها موصولات، وتقدم في سورة السجدة نظير هذه الآية وذكرنا في تفسير ما ذكرنا فليراجع أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الوصفين الجليلين أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها حال من المستكن في أَصْحابُ وقوله تعالى: جَزاءً منصوب إما بعامل مقدر أي يجزون جزاء، والجملة استئناف أو حال وإما بمعنى ما تقدم على ما قيل فإن قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ في معنى جازيناهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الحسنات القلبية والقالبية.