وفي القاموس التعس الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط والفعل كمنع وسمع أو إذا خاطبت قلت:
تعست كمنع وإذا حكيت قلت: تعس كسمع، ويقال: تعسه الله تعالى وأتعسه ورجل تاعس وتعس، وانتصابه على المصدر بفعل من لفظه يجب إضماره لأنه للدعاء كسقيا ورعيا فيجري مجرى الأمثال إذا قصد به ذلك، والجار والمجرور بعده متعلق بمقدر للتبيين عند كثير أي أعني له مثلا فنحو تعسا له جملتان. وذهب الكوفيون إلى أنه كلام واحد، ولابن هشام كلام في هذا الجار مذكور في بحث لام التبيين فلينظر هناك.
واختلفت العبارات في تفسير ما في الآية الكريمة، فقال ابن عباس: أي بعدا لهم. وابن جريج. والسدي أي حزنا لهم، والحسن أي شتما لهم، وابن زيد أي شقاء لهم، والضحاك أي رغما لهم، وحكى النقاش تفسيره بقبحا لهم، وقال غير واحد: أي عثورا وانحطاطا لهم، وما ألطف ذكر ذلك في حقهم بعد ذكر تثبيت الأقدام في حق المؤمنين، وفي رواية عن ابن عباس يريد في الدنيا القتل وفي الآخرة التردي في النار، وأكثر الأقوال ترجع إلى الدعاء عليهم بالهلاك.
وجوز الزمخشري في إعرابه وجهين: الأول كونه مفعولا مطلقا لفعل محذوف كما تقدم. والثاني مفعولا به لمحذوف أي فقضى تعسا لهم، وقدر على الأول القول أي فقال: تعسا لهم، والذي دعاه لذلك على ما قيل جعل الَّذِينَ مبتدأ والجملة المقرونة بالفاء خبرا له وهي لا نشاء الدعاء. والإنشاء لا يقع خبرا بدون تأويل، فإما أن يقدر معها قول أو تجعل خبرا بتقدير قضى، وجعل قوله تعالى: وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ عطفا على ما قدر.
وفي الكشف المراد من قال: تعسا لهم أهلكهم الله لا أن ثم دعاء وقولا، وذلك لأنه لا يدعي على شخص إلا وهو مستحق له فإذا أخبر تعالى أنه يدعو عليه دل على تحقق الهلاك لا سيما وظاهر اللفظ أن الدعاء منه عزّ وجلّ، وهذا مجاز على مجاز أعني أن القول مجاز وكذلك الدعاء بالتعس، ولم يجعل العطف على (تعسا) لأنه دعاء، وأَضَلَّ إخبار، ولو جعل دعاء أيضا عطفا على (تعسا) على التجوز المذكور لكان له وجه انتهى. وأنت تعلم أن اعتبار ما اعتبره الزمخشري ليس لأجل أمر العطف فقط بل لأجل أمر الخبرية أيضا، فإن قيل بصحة الأخبار بالجملة الإنشائية من غير تأويل استغنى عما قاله بالكلية، ودخلت الفاء في خبر الموصول لتضمنه معنى الشرط.
وجوز أن يكون الموصول في محل نصب على المفعولية لفعل مقدر يفسره الناصب- لتعسا- أي أتعس الله الذين كفروا أو تعس الله الذين كفروا تعسا لما سمعت عن القاموس وقد حكي عن أبي عبيدة، والفاء زائدة في الكلام كما في قوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: ٣] ويزيدها العرب في مثل ذلك على توهم الشرط، وقيل: يقدر الفعل مضارعا معطوفا على قوله تعالى: يُثَبِّتْ أي ويتعس الذين إلخ. والفاء للعطف فالمراد اتعاس بعد اتعاس، ونظيره قوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: ٤٠] أو لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال، وفيه مقال.
ذلِكَ أي ما ذكر من التعس والإضلال بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمارة بالسوء، وهذا تخصيص وتصريح بسببية الكفر بالقرآن للتعس والإضلال إذ قد علم من قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلخ سببية مطلق الكفر الداخل فيه الكفر بالقرآن دخولا أوليا لذلك فَأَحْبَطَ لأجل ذلك أَعْمالَهُمْ التي لو كانوا عملوها التي لو كانوا عملوها مع الإيمان لأثيبوا عليها، وذكر الإحباط مع ذكر الإضلال المراد هو منه إشعارا بأنه يلزم الكفر بالقرآن ولا ينفك عنه بحال أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي أقعدوا في أماكنهم فلم يسيروا فيها فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبة فإن آثار ديارهم تنبىء عن أخبارهم، وقوله تعالى: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ استئناف بياني كأنه قيل: كيف كانت