للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكانوا بذلك سببا لإخراجه حين أذن الله تعالى عليه الصلاة والسلام بالهجرة منها، ونظير ذلك أقدمني بلدك حق لي عليك. وأنت تعلم أنه على ما حققه الأجلة يحتمل أوجها ثلاثة، مجازا في الإسناد إذا كان الإقدام مستعملا في معناه الذي وضع له وإن كان موهوما. ومجازا في الطرف إذا كان مستعملا في معنى الحمل على القدوم. واستعارة بالكناية إن كان الحق مستعملا في المقدم، والشيخ يقول في مثل ذلك: إن الفعل المتعدي موهوم لا فاعل له ليصير الإسناد إليه حقيقة فلا إقدام مثلا في قصد المتكلم وإنما هو تصوير القدوم بصورة الإقدام، وإسناده إلى الحق المصور بصورة المقدم مبالغة في كونه داعيا للقدوم، وارتضاه السالكوتي في حواشي شرح مختصر التلخيص وذب عنه القال والقيل، وتمام الكلام هناك، والكلام في الآية على طرز ذاك، ووصف القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوتها كما أن وصف الثانية بإخراجه عليه الصلاة والسلام للإيذان بأولويتها به لقوة جنايتها، وعلى طريقته قول النابغة:

كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرج بالدم

وقوله تعالى: فَلا ناصِرَ لَهُمْ بيان لعدم خلاصهم بواسطة الأعوان والأنصار إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم، والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات وهو حكاية حال ماضية كما في قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ولا نسلم أن اسم الفاعل إذا لم يعمل حقيقة في الماضية، والآية تسلية له صلّى الله عليه وسلّم،

فقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: «أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأنت أحب بلاد الله تعالى إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك»

فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بدخول أهل الجاهلية فأنزل الله سبحانه وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ إلخ، وقد تقدم ما يتعلق بذلك أول السورة فتذكر.

أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ تقرير لتباين حال الفريقين المؤمنين والكافرين وكون الأولين في أعلى عليين والآخرين في أسفل سافلين وبيان لعلة ما لكل منهما من الحال، والهمزة لإنكار استوائهما أو لإنكار كون الأمر ليس كما ذكر، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقد قرىء بدونها، و (من) عبارة عن المؤمنين المتمسكين بأدلة الدين كما أنها في قوله تعالى: كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ عبارة عن أضدادهم من المشركين.

وأخرج جماعة عن ابن عباس أن من كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ هم المشركون، وروي عن قتادة نحوه وإليه ذهب الزمخشري. وتعقب بأن التخصيص لا يساعده النظم الكريم ولا داعي إليه، قيل: ومثله كون (من) الأول عبارة عنه صلّى الله عليه وسلّم وعن المؤمنين، والمعنى أيستوي الفريقان أو أليس الأمر كما ذكر فمن كان ثابتا على حجة ظاهرة وبرهان نير من مالك أمره ومربيه وهو القرآن العظيم وسائر المعجزات والحجج العقلية كمن زين له الشيطان عمله السيء من الشرك وسائر المعاصي كإخراجك من قريتك مع كون ذلك في نفسه أقبح القبائح وَاتَّبَعُوا في ذلك العمل السيء، وقيل: بسبب ذلك التزيين أَهْواءَهُمْ الزائغة من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما هم عليه فضلا عن حجة تدلك عليها. وجمع الضميرين الأخيرين باعتبار معنى (من) كما أن افراد الأولين باعتبار لفظها.

<<  <  ج: ص:  >  >>