منهم أسلم بترديد نظر ولا سألوه عن دليل تصديقه ولا أرجؤوا أمره حتى ينظر فلو كان النظر واجبا على الأعيان ولو إجماليا على طريق العامة لما اكتفى النبي صلّى الله عليه وسلّم من أولئك العوام والأجلاف بمجرد الإقرار لأن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يقرون أحدا على ترك فرض العين من غير عذر، فلا يكون تاركه آثما فضلا عن أن يكون بتركه غير صحيح الإيمان، ويشهد لذلك ما قاله صلّى الله عليه وسلّم لأسامة بن زيد عند اعتذاره عن قتل مرداس بن نهيك من أهل فدك وغيره من الأخبار الكثيرة. وما في المواقف والمقاصد وشرح المختصر العضدي وغيرها من كتب الكلام والأصول من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يعلمون أنهم- أي العوام- واجلاف العرب يعلمون الأدلة إجمالا كما قال الأعرابي: البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدل على اللطيف الخبير أي فلذلك لم يلزموهم النظر ولا سألوهم عنه ولا أرجؤوا أمرهم وكل ما كان كذلك لم يكن اكتفاؤهم بمجرد الإقرار دليلا على أن النظر ليس واجبا على الأعيان ولا على أن تاركه غير آثم دعوى لا دليل عليها، وحكاية الأعرابي إن كانت مسوقة للاستدلال لا تدل غاية ما في الباب أن ذلك الأعرابي كان عالما بدليل إجمالي، ولا يلزم منه أن جميع الأجلاف والعوام كانوا عالمين بالأدلة الإجمالية في عهد النبوة وغيره وإلا لكانت حجة على أنه لا مقلد في الوجود، على أن بعضهم أسند ذلك القول إلى قس بن ساعدة وكان في الفترة. والجلال المحلي ذكره لأعرابي قاله في جواب الأصمعي وكان في زمن الرشيد بل قد يقال: إن ظاهر كثير من الآيات والأخبار يدل على أن كثيرا من المشركين في عهده عليه الصلاة والسلام لم يكونوا عالمين بأدلة التوحيد مطلقا، وذلك كقوله تعالى حكاية عنهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: ٥] . إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات: ٣٦] وقول بعضهم في بعض الحروب: أعل هبل أعل هبل وما ذكره المحقق العضد في شرح المختصر من الدليل على عدم جواز التقليد حيث قال: إن الأمة أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وأنها لا تحصل بالتقليد لثلاثة أوجه: أحدها أنه يجوز الكذب على المخبر فلا يحصل بقوله العلم ثانيها أنه لو أفاد العلم لأفاده بنحو حدوث العالم من المسائل المختلف فيها فإذا قلد واحد في الحدوث والآخر في القدم كانا عالمين بهما فيلزم حقيقتهما وأنه محال. ثالثها أن التقليد لو حصل العلم فالعلم بأنه صدق فيما أخبر به إما أن يكون ضروريا أو نظريا لا سبيل إلا الأول بالضرورة فلا بد له من دليل والمفروض إنه لا دليل إذ لو علم صدقه بدليله لم يبق تقليدا تعقبه العلامة الكوراني فقال: فيه بحث، أما في الوجه الأول فلأن من جوز التقليد مثل المقلد بمن نشأ على شاهق جبل ولم ينظر في ملكوت السموات والأرض وأخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وصدقه بمجرد إخباره من غير تفكر وتدبر وهو صريح في أن الكلام في مقلد أخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وما يلزمه اعتقاده لا يكون إلا صدقا فإن الكذب لا يلزم أحدا اعتقاده، وأما من أخبر بالأكاذيب فاعتقدها فهو لم يعتقد إلا أكاذيب والأكاذيب ليس من معرفة الله تعالى في شيء فكيف يحكم عليه أحد من العقلاء بأنه مؤمن بالله تعالى عارف به مع أنه لم يعتقد إلا الأكاذيب وهو ظاهر، وأما في الوجه الثاني فلمثل ما مر لأنا لا نقول: إن كل تقليد مفيد للعلم ولا أن كل مقلد عالم كيف وليس كل نظر مفيدا للعلم ولا كل
ناظر مصيبا، فإذا لم يكن النظر موجبا للعلم مطلقا وإنما الموجب النظر الصحيح فكذلك نقول: ليس كل تقليد مفيدا للعلم وإنما المفيد التقليد الصحيح، وهو أن يقلد عالما بمسائل معرفة الله تعالى صادقا فيما يخبره به فإن الكلام إنما هو في صحة إيمان مثل هذا المقلد لا مطلقا، وأما في الثالث فلأنا نختار أن علمه بأنه صدق فيما أخبر به ضروري قولكم لا سبيل إليه بالضرورة قلنا: ممنوع لقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: ١٢٥]
وقد روي مرفوعا أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن شرح الصدر فقال عليه الصلاة والسلام:«نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينفسح»
فصرح صلّى الله عليه وسلّم بأنه نور لا يحصل من دليل وإنما يقذفه الله تعالى في قلبه فلا يقدر على دفعه من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا