فصيحة في جواب شرط مقدر ويقدر معه قد أي إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته، والجزائية باعتبار التبين، والضمير المنصوب للأكل وقيل: للحم، وقيل: للميت وليس بذاك، وجوز كونه للاغتياب المفهوم مما قبل، والمعنى فاكرهوه كراهيتكم لذلك الأكل، وعبر بالماضي للمبالغة، وإذا أول بما ذكر يكون إنشاء غير محتاج لتقدير قد، وانتصاب مَيْتاً على الحال من اللحم أو الأخ لأن المضاف جزء من المضاف إليه والحال في مثل ذلك جائز خلافا لأبي حيان.
وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري وأبو حيوة
«فكرّهتموه» بضم الكاف وشد الراء، ورواها الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
، وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ قيل عطف على محذوف كأنه قيل: امتثلوا ما قيل لكم واتقوا الله.
وقال الفراء التقدير ان صح ذلك فقد كرهتموه فلا تفعلوه واتقوا الله فهو عطف على النهي المقدر، وقال أبو علي الفارسي. لما قيل لهم أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إلخ كان الجواب لا متعينا فكأنهم قالوا: لا نحب فقيل لهم فَكَرِهْتُمُوهُ ويقدر فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظيره واتقوا الله فيكون عطفا على فاكرهوا المقدر، وقيل: هو عطف على فكرهتموه بناء على أنه خبر لفظا أمر معنى كما أشير إليه سابقا ولا يخفى الأولى من ذلك: وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ تعليل للأمر أي لأنه تعالى تواب رحيم لمن اتقى واجتنب ما نهي عنه وتاب مما فرط منه، وتواب أي مبالغة في قبول التوبة والمبالغة إما باعتبار الكيف إذ يجعل سبحانه التائب كمن لم يذنب أو باعتبار الكم لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم.
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه كان مع رجلين في سفر يخدمهما وينال من طعامهما وأنه نام يوما فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء وقالا: ما يريد سلمان شيئا غير هذا أن يجيء إلى طعام معدود وخبار مضروب فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلب لهما إداما فانطلق فأتاه فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك قال: ما يصنع أصحابك بالإدام؟ لقد ائتدموا فرجع رضي الله تعالى عنه فخبرهما فانطلقا فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاما منذ نزلنا قال: إنكما قد ائتدمتما بسلمان فنزلت.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد فنفخ فذكر رجلان أكله ورقاده فنزلت.
وأخرج الضياء المقدسي في المختارة عن أنس قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيء لهما طعاما فقالا: إن هذا لنؤوم فأيقظاه فقالا:
ائت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقل له إن أبا بكر وعمر يقرآنك السلام ويستأدمانك فقال: إنهما ائتدما فجاءا فقالا: يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا قال بلحم أخيكما والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثنايا كما فقالا: استغفر لنا يا رسول الله قال:
مراه فليستغفر لكما
وهذا خبر صحيح ولا طعن فيه على الشيخين سواء كان ما وقع منهما قبل النزول أو بعده حيث لم يظنا بناء على حسن الظن فيهما ان تلك الكلمة مما يكرهها ذلك الرجل: هذا والآية دالة على حرمة الغيبة. وقد نقل القرطبي وغيره الإجماع على أنها من الكبائر، وعن الغزالي وصاحب العدة أنهما صرحا بأنها من الصغائر وهو عجيب منهما لكثرة ما يدل على أنها من الكبائر، وقصارى ما قيل في وجه القول بأنها صغيرة أنه لو لم تكن كذلك يلزم فسق الناس كلهم إلا الفذ النادر منهم وهذا حرج عظيم. وتعقب بأن فشو المعصية وارتكاب جميع الناس لها فضلا عن الأكثر لا يوجب أن تكون صغيرة، وهذا الذي دل عليه الكلام من ارتكاب أكثر الناس لها لم يكن قبل. على أن الإصرار عليها قريب منها في كثرة الفشو في الناس وهو كبيرة بالإجماع ويلزم عليه الحرج العظيم وإن لم يكن في