المراد بقوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ الأمر بالإيمان وملازمة الطاعة، وذكر وَلا تَجْعَلُوا إلخ، إفرادا لأعظم ما يجب أن يفر منه، وإِنِّي لَكُمْ إلخ، الأول مرتب على ترك الإيمان والطاعة، والثاني على الإشراك فهما متغايران لتغاير ما ترتب كل منهما عليه ووقع تعليلا له ولا يخلو عن كدر، وقال الزمخشري: في الآية: فروا إِلَى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ووحدوا ولا تشركوا به، وكرر إِنِّي لَكُمْ إلخ عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل كما أن العمل لا ينفع إلا مع الايمان وأنه لا يفوز عند الله تعالى إلا الجامع بينهما انتهى، وفيه أنه لا دلالة في الآية على ذلك بوجه ثم تفسير الفرار إلى الله بما فسره أيضا لينطبق على العمل وحده غير مسلم على أنه لو سلم الإنذار بترك العمل فمن أين يلزم عدم النفع، وأهل السنة لا ينازعون في وقوع الإنذار بارتكاب المعصية، فالمنساق إلى الذهن على تقدير كون المراد بالفرار إلى الله تعالى العبادة أنه تعالى أمر بها أولا وتوعد تاركها بالوعيد المعروف له في الشرع وهو العذاب دون خلود، ونهى جل شأنه ثانيا أن يشرك بعبادته سبحانه غيره وتوعد المشرك بالوعيد المعروف له وهو الخلود، وعلى هذا يكون الوعيدان متغايرين وتكون الآية في تقديم الأمر على النهي فيها نظير قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف: ١١٠] ، وقوله سبحانه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء: ٣٦] وأين هذا مما ذكره الزمخشري عامله الله تعالى بعدله.
كَذلِكَ أي الأمر مثل ذلك تقرير وتوكيد على ما مر غير مرة، ومن فصل الخطاب لأنه لما أراد سبحانه أن يستأنف قصة قولهم المختلف في الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن تقدمت عموما أو خصوصا في قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذاريات: ٨] وكان قد توسط ما توسط قال سبحانه: الأمر كذلك أي مثل ما يذكر ويأتيك خبره إشارة إلى الكلام الذي يتلوه أعني قوله عز وجل: ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلى آخره فهو تفسير ما أجمل وهو مراد من قال: الإشارة إلى تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام وتسميتهم إياه وحاشاه ساحرا ومجنونا، ويعلم مما ذكر أن كذلك خبر مبتدأ محذوف ولا يجوز نصبه يأتي على أنه صفة لمصدره، والإشارة إلى الإتيان أي ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من رسول إتيانا مثل إتيانهم إِلَّا قالُوا إلخ لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها على المشهور، ولا يأتي مقدرا على شريطة التفسير لأن ما لا يعلم لا يفسر عاملا في مثل ذلك كما صرح به النحاة، وجعله معمولا لقالوا، والإشارة للقول أي إلا قالوا ساحرا أو مجنون قولا مثل ذلك القول لا يجوز أيضا على تعسفه لمكان ما وضمير قبلهم لقريش أي ما أتى الذين من قبل قريش مِنْ رَسُولٍ أي رسول من رسل الله تعالى إِلَّا قالُوا في حقه ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ خبر مبتدأ محذوف أي هو ساحر، وأو- قيل: من الحكاية أي إِلَّا قالُوا ساحِرٌ، أو قالوا مَجْنُونٌ وهي لمنع الخلو وليست من المحكي ليكون مقول كل مجموع ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ وفي البحر هي للتفصيل أي قال بعض: ساحر وقال بعض: مجنون وقال بعض: ساحر ومجنون فجمع القائلون في الضمير ودلت- أو- على التفصيل انتهى فلا تغفل.
واستشكلت الآية بأنها تدل على أنه ما من رسول إلا كذب مع أن الرسل المقررين شريعة من قبلهم كيوشع عليه السلام لم يكذبوا وكذا آدم عليه السلام أرسل ولم يكذب. وأجاب الامام بقوله: لا نسلم أن المقرر رسول بل هو نبي على دين رسول ومن كذب رسوله فهو يكذبه أيضا وتعقب بأن الأخبار وكذا الآيات دالة على أن المقررين رسل، وأيضا يبقى الاستشكال بآدم عليه السلام وقد اعترف هو بأنه أرسل ولم يكذب وأجاب بعض عن الاستشكال بالمقررين بأن الآية إنما تدل على أن الرسل الذين أتوا من قبلهم كلهم قد قيل في حقهم ما قيل، ولا يدخل في عموم