للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في الخبرية ويكون الوصف بذلك قائما مقام تينك الجملتين في المدح، والجملة بعد مستأنفة استئنافا بيانيا كما في الوجه الشائع، وما يقال: إن في هذا الوجه حذف الموصول مع بعض أجزاء الصلة يجاب عنه بمنع كون- أل- في الوصف حيث لم يرد منه الحدوث موصولة فتأمل ولا تغفل، وقوله تعالى: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ متعلق بالمقربون، أو بمضمر هو حال من ضميره أي كائنين في جنات النعيم، وعلى الوجهين فيه إشارة إلى أن قربهم محض لذة وراحة لا كقرب خواص الملك القائمين بأشغاله عنده بل كقرب جلسائه وندمائه الذين لا شغل لهم ولا يرد عليهم أمر أو نهي ولذا قيل: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دون جنات الخلود ونحوه، وقيل: خبر ثان لاسم الإشارة وتعقب بأن الإخبار بكونهم فيها بعد الإخبار بكونهم مقربين ليس فيه مزيد مزية، وأجيب بأن الإخبار الأول للإشارة إلى اللذة الروحانية والإخبار الثاني للإشارة إلى اللذة الجسمانية.

وقرأ طلحة في جنة النعيم بالإفراد، وقوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ خبر مبتدأ مقدر أي هم ثلة إلخ، وجوز كونه مبتدأ خبره محذوف أي منهم، أو خبرا أولا أو ثانيا- لأولئك- وجوز أبو البقاء كونه مبتدأ والخبر عَلى سُرُرٍ، والثلة في المشهور الجماعة كثرت أو قلّت، وقال الزمخشري: الأمة من الناس الكثيرة وأنشد قوله:

وجاءت إليهم ثلة خندفية ... بجيش كتيار من السيل مزبد

وقوله تعالى بعد: وَقَلِيلٌ إلخ كفى به دليلا على الكثرة انتهى، والظاهر أنه أنشد البيت شاهدا لمعنى الكثرة في الثلة فإن كانت الباء تجريدية وهو الظاهر فنص وإلا فالاستدلال عليها من أن المقام مقام مبالغة ومدح، وأما استدلاله بما بعد فذلك لأن التقابل مطلوب لأن الثلة لم توضع للقليل بالإجماع حتى يحمل ما بعد على التقنن بل هي إما للكثرة والاشتقاق عليها أدل لأن الثل بمعنى الصب وبمعنى الهدم بالكلية، والثلة بالكسر الضأن الكثيرة وإما لمطلق الجماعة كالفرقة والقطعة من الثل بمعنى الكسر كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم إلا أن لاستعمال غلب على الكثير فيها فالمعنى جماعة كثيرة من الأولين وهم الناس المتقدمون من لدن آدم إلى نبينا عليهما الصلاة والسلام وعلى من بينهما من الأنبياء العظام وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ وهم الناس من لدن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قيام الساعة ولا يخالفه

قوله عليه الصلاة والسلام: «إن أمتي يكثرون سائر الأمم»

أي يغلبونهم في الكثرة لأن أكثرية سابقي المتقدمين من سابقي هذه الأمة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك.

وحاصل ذلك غلبة مجموع هذه الأمة كثرة على من سواها كقرية فيها عشرة من العلماء ومائة من العوام وأخرى فيها خمسة من العلماء وألف من العوام فخواص الأولى أكثر من خواص الثانية وعوام الثانية ومجموع أهلها أضعاف أولئك، لا يقال يأبى أكثرية تابعي هؤلاء قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة: ٣٩، ٤٠] فإنه في حق أصحاب اليمين وهم التابعون، وقد عبر في كل بالثلة أي الجماعة الكثيرة لأنا نقول لا دلالة في الآية على أكثر من وصف كل من الفريقين بالكثرة وذلك لا ينافي أكثرية أحدهما فتحصل أن سابقي الأمم السوالف أكثر من سابقي أمتنا. وتابعي أمتنا أكثر من تابعي الأمم، والمراد بالأمم ما يدخل فيه الأنبياء وحينئذ لا يبعد أن يقال: إن كثرة سابقي الأولين ليس إلا بأنبيائهم فما على سابقي هذه الأمة بأس إذ أكثرهم سابقو الأمم بضم لأنبياء عليهم السلام،

وأخرج الإمام أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال: «لما نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة- أو شطر أهل الجنة- وتقاسمونهم النصف الثاني»

وظاهره أنه شق عليهم قلة من وصف بها وأن الآية الثانية أزالت ذلك ورفعته وأبدلته

<<  <  ج: ص:  >  >>