للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اقتضاه الحال من التكذيب بالقرآن المنعوت بتلك النعوت الجليلة وكون ذلك على الوجه الذي يزعمه الكفار تكذيبا به مما لا ينتطح فيه كبشان، وهذا لا تمحل فيه، وقد يقال على تقدير أن يراد بالرزق المطر وكون تُكَذِّبُونَ على معنى تكذبون بكونه- أي المطر- من الله تعالى حيث تنسبونه إلى الأنواء وإن لم أقف على التصريح به في أثر يعول عليه، المعنى أفبهذا القرآن الجليل المرشد إلى أن كل نعمة منه تعالى لا غير المصرح عن قريب بأنه المنزل للمطر وحده أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ أي تكذبون على ما سمعت عن ابن عباس والزجاج ومن ذلك أنكم تَجْعَلُونَ موضع شكر ما يرزقكم من المطر وينزله لكم أنكم تكذبون بكونه من الله تعالى وتنسبونه إلى الأنواء، والتبكيت الآتي مبني على تكذيبهم بالقرآن المفهوم من تُكَذِّبُونَ أو من قوله سبحانه: أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ لكن التكذيب به باعتبار التكذيب ببعض ما نطق به بما سبق وتوقف المراد بالآية على الخبر غير بدع في القرآن الكريم، وحال عطف تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ على ما قبله لا يخفى على نبيه، فتأمل والله تعالى الموفق لفهم كتابه الكريم.

وقرأ المفضل عن عاصم «تكذبون» بالتخفيف من الكذب وهو قولهم في القرآن إنه- وحاشاه- افتراء ويرجع إلى هذا قولهم في المطر: إنه من الأنواء لأن القرآن ناطق بخلافه، وقوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ إلخ تبكيت كما سمعت وذلك باعتبار تكذيبهم بما نطق به قوله تعالى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ إلخ أعني الآيات الدالة على كونهم تحت ملكوته تعالى من حيث ذواتهم ومن حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معايشهم- ولولا- للتحضيض بإظهار عجزهم، وإِذا ظرفية، والْحُلْقُومَ مجرى الطعام وضمير بَلَغَتِ للنفس لانفهامها من الكلام وإن لم يجر لها ذكر قبل، والمراد بها الروح بمعنى البخار المنبعث عن القلب دون النفس الناطقة فإنها لا توصف بما ذكر وكأنه مبني على القول بتجرد النفس الناطقة وهي المسماة بالروح الأمرية، وأنها لا داخل البدن ولا خارجه ولا تتصف بصفات الأجسام كالصعود والنزول وغيرهما على ما اختاره حجة الإسلام الغزالي وجماعة من المحققين، ومذهب السلف أن النفس الناطقة وهي الروح المشار إليها بقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: ٨٥] جسم لطيف جدا سار في البدن سريان ماء الورد في الورد وهو حي بنفسه يتصف بالخروج والدخول وغيرهما من صفات الأجسام وقد رد العلامة ابن القيم قول الغزالي ومن وافقه بأدلة كثيرة ذكرها في كتابه الروح، ووصفها ببلوغ الحلقوم عليه ظاهر.

وأما على القول بالتجرد وعدم التحيز فقيل: المراد به ضعف التعلق بالبدن وقرب انقطاعه عنه فكأنه قيل: فلولا إذا حان انقطاع تعلق الروح بالبدن وَأَنْتُمْ أيها الخاسرون حول صاحبها حِينَئِذٍ أي حين إذ بلغت الحلقوم ووصلت إليه أو حان انقطاع تعلقها تَنْظُرُونَ إلى ما يقاسيه من الغمرات، وقيل: تَنْظُرُونَ حالكم ووجهه أنهم يعلمون أن ما جرى عليه يجري عليهم فكأنهم شاهدوا حال أنفسهم وليس بذاك.

وقرأ عيسى حينئذ بكسر النون اتباعا لحركة الهمزة في إذ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ أي المحتضر المفهوم من الكلام مِنْكُمْ والمراد بالقرب العلم وهو من إطلاق السبب وإرادة المسبب فإن القرب أقوى سبب للاطلاع والعلم، وقال غير واحد: المراد القرب علما وقدرة أي نحن أقرب إليه من كل ذلك منكم حيث لا تعرفون من حاله إلا ما تشاهدونه من آثار الشدّة من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها الحقيقية ولا أن تقدروا على مباشرة دفعها إلا بما لا ينجع شيئا ونحن المستولون لتفاصيل أحواله بعلمنا وقدرتنا أو بملائكة الموت وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ لا تدركون كوننا أقرب إليه منكم لجهلكم بشؤوننا وقد علمت أن الخطاب

<<  <  ج: ص:  >  >>