للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية، والمراد نفي وقوع الرعاية من كلهم على أن المعنى فما رعاها كلهم بل بعضهم، وليس المراد بالموصول فيما سبق أشخاصا بأعيانهم بل المراد به ما يعم النصارى إلى زمان الإسلام ولا يضر في ذلك أن أصل الابتداع كان من قوم مخصوصين لأن إسناده على نحو الإسناد في- بنو تميم قتلوا زيدا- والقاتل بعضهم.

وقال الضحاك وغيره: الضمير في فَما رَعَوْها للاخلاف الذين جاؤوا بعد المبتدعين والأول أوفق بالصناعة، والمراد بالذين آمنوا في قوله تعالى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ الذين آمنوا إيمانا صحيحا وهو لمن أدرك وقت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الايمان به عليه الصلاة والسلام أي فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا بعد رعاية رهبانيتهم أَجْرَهُمْ أي ما يختص به من الأجر وهو الأجر على ما سلف منهم والأجر على الإيمان به عليه الصلاة والسلام، وليس المراد بهم الذين بقوا على رعاية الرهبانية إلى زمان البعثة ولم يؤمنوا لأن رعايتها لغو محض وكفر بحت وإنما لها استتباع الأجر، ويجوز أن يقال: إن الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها هم الذين كذبوه عليه الصلاة والسلام، قال الزجاج: قوله تعالى: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها على ضربين: أحدهما أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم، والآخر وهو الأجود أن يكونوا حين بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يؤمنوا فكانوا تاركين لطاعة الله تعالى فما رعوا تلك الرهبانية، ودليل ذلك قوله تعالى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ إلخ انتهى، فحمل الذين آمنوا على من أدرك وقته عليه الصلاة والسلام منهم وآمن به صلى الله تعالى عليه وسلم، والفاسقين في قوله تعالى: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ على الذين لم يؤمنوا به صلى الله تعالى عليه وسلم مقتضى حمل الذين آمنوا على ما سمعت أولا حمله على الأعم الشامل لمن خرج عن اتباع عيسى عليه السلام من قبل وحمل الفريقين على من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين بها إذ ذاك بالتثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة ونحو ذلك من غير تعرض لإيمانهم برسول الله عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده المقام.

ومن الآثار ما يأباه

ففي حديث طويل أخرجه جماعة منهم الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن ابن مسعود «اختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشر، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ الذين آمنوا بي وصدقوني وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ الذي جحدوا بي وكفروا بي»

وهذا الخبر يؤيد ما استجوده الزجاج، ويعلم منه أيضا سبب ابتداع الرهبانية وليس في الآية ما يدل على ذم البدعة مطلقا، والذي تدل عليه ظاهرا ذم عدم رعاية ما التزموه، وتفصيل الكلام في البدعة ما ذكره الإمام محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم قال العلماء: البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة (١) فمن الواجبة تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك، ومن المباحة التبسط في ألوان الاطعمة وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران، فعلم أن

قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «كل بدعة ضلالة»

من العام المخصوص.


(١) هذا التقسيم لا يصح أن يكور للبدع بالمعنى الشرعي إذا ما ذكره دل عليه الكتاب والسنة وإنما يصح للبدع بالمعنى اللغوي وقد أشبع الكلام على ذلك الاعتصام فراجعه اه إدارة الطباعة النيرية.

<<  <  ج: ص:  >  >>