والحكمة إما بناء على كمال ظهور اتصافه تعالى بهما مع مساعدة تامة من المقام، أو على جعله مستعارا لاسم الإشارة كما في قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [الأنعام: ٤٦] أي بذلك فكأنه قيل: ذلك المنعوت بالعزة والحكمة الذي أخرج إلخ، ففيه إشعار بأن في الإخراج حكمة باهرة، وقوله تعالى: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ متعلق- بأخرج- واللام لام التوقيت كالتي في قولهم: كتبته لعشر خلون. ومآلها إلى معنى- في- الظرفية، ولذا قالوا هنا أي في أول الحشر لكنهم لم يقولوا: إنها بمعنى- في- إشارة إلى أنها لم تخرج عن أصل معناها وأنها للاختصاص لأن ما وقع في وقت اختص به دون غيره من الأوقات، وقيل: إنها للتعليل وليس بذاك، ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي أول ما حشروا وأخرجوا، ونبه بالأولية على أنهم لم يصبهم جلاء قبل ولم يجلهم بختنصر حين أجلى اليهود بناء على أنهم لم يكونوا معهم إذ ذاك وإن نقلهم من بلاد الشام إلى أرض العرب كان باختيارهم، أو لم يصبهم ذلك في الإسلام، أو على أنهم أول محشورين من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام، ولا نظر في ذلك إلى مقابلة الأول بالآخر، وبعضهم يعتبرها فمعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إلى الشام، وقيل: آخر حشرهم حشرهم يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشام.
وعن عكرمة من شك أن المحشر هاهنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية، وكأنه أخذ ذلك من أن المعنى الأول حشرهم إلى الشام فيكون لهم آخر حشر إليه أيضا ليتم التقابل، وهو يوم القيامة من القبور، ولا يخفى أنه ضعيف الدلالة وفي البحر عن عكرمة والزهري أنهما قالا: المعنى لأول موضوع الحشر وهو الشام،
وفي الحديث أنه صلّى الله عليه وسلم قال لهم:«اخرجوا قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر»
ولا يخفى ضعف هذا المعنى أيضا، وقيل: آخر حشرهم أن نارا تخرج قبل الساعة فتحشرهم كسائر الناس من المشرق إلى المغرب، وعن الحسن أنه أريد حشر القيامة أي هذا أوله والقيام من القبور آخره، وهو كما ترى، وقيل: المعنى أخرجهم من ديارهم لأول جمع حشره النبي صلّى الله عليه وسلم أو حشره الله عز وجل لقتالهم لأنه صلّى الله تعالى عليه وسلم لم يكن قبل قصد قتالهم، وفيه من المناسبة لوصف العزة ما لا يخفى، ولذا قيل: إنه الظاهر، وتعقب بأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن جمع المسلمين لقتالهم في هذه المرة أيضا ولذا ركب عليه الصلاة والسلام حمارا مخطوما بليف لعدم المبالاة بهم وفيه نظر، وقيل: لأول جمعهم للمقاتلة من المسلمين لأنهم لم يجتمعوا لها قبل، والحشر إخراج جمع سواء كان من الناس لحرب أو لا، نعم يشترط فيه كون المحشور جمعا من ذوي الأرواح لا غير، ومشروعية الإجلاء كانت في ابتداء الإسلام، وأما الآن فقد نسخت، ولا يجوز إلا القتل أو السبي أو ضرب الجزية ما ظَنَنْتُمْ أيها المسلمون أَنْ يَخْرُجُوا لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم.
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي ظنوا أن حصونهم مانعتهم أو تمنعهم من بأس الله تعالى- فحصونهم- مبتدأ ومانِعَتُهُمْ خبر مقدم، والجملة خبر أَنْ وكان الظاهر لمقابلة ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وظنوا أن لا يخرجوا والعدول إلى ما في النظم الجليل للإشعار بتفاوت الظنين، وأن ظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتى بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه فجيء- بمانعتهم. وحصونهم- مقدما فيه الخبر على المبتدأ ومدار الدلالة التقديم لما فيه من الاختصاص فكأنه لا حصن أمنع من حصونهم، وبما يدل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معهما بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم، فجيء بضمير- هم- وصير اسما- لأن- وأخبر عنه بالجملة لما في ذلك من التقوى على ما في الكشف وشرح الطيبي، وفي كون ذلك من باب التقوى بحث، ومنع