واختلف في المطلقات اللاتي لسن أولات حمل بعد الاتفاق على وجوب السكنى لهن إذا لم يكن مبتوتات، فقال ابن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء والشعبي والحسن ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وأبو عبيد:
للمطلقة الحائل المبتوتة السكنى ولا نفقة لها، وقال الحسن وحماد وأحمد وإسحاق وأبو ثور والإمامية: لا سكنى لها ولا نفقة
لحديث فاطمة بنت قيس قالت: طلقني زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي البتة فخاصمته إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم في السكنى والنفقة فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم ثم أنكحني أسامة بن زيد
، وقال أبو حنيفة والثوري: لها السكنى والنفقة فهما عنده لكل مطلقة لم تكن ذات حمل، ودليله
أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقول في المبتوتة: «لها النفقة والسكنى»
مع أن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين الحائل والحامل، ولو كان جزاء للحمل لوجب في ماله إذا كان له مال ولم يقولوا به.
ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود- أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم- ومن خص الإنفاق بالمعتدات أولات الحمل استدل بهذه الآية لمكان الشرط فيها وهو لا يتم على النافين لمفهوم المخالفة مع أن فائدة الشرط هاهنا أن الحامل قد يتوهم أنها لا نفقة لها لطول مدة الحمل فأثبت لها النفقة ليعلم غيرها بالطريق الأولى- كما في الكشاف- فهو من مفهوم الموافقة، وحديث فاطمة بنت قيس قد طعن فيه عمر وعائشة وسليمان بن يسار والأسود بن يزيد وأبو سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أي بعد أن يضعن حملهن فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على الإرضاع وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ خطاب للآباء والأمهات، والافتعال بمعنى التفاعل، يقال:
ائتمر القوم وتآمروا بمعنى، قال الكسائي: والمعنى تشاوروا، وحقيقته ليأمر بعضكم بعضا بمعروف أي جميل في الأجرة والإرضاع ولا يكن من الأب مماسكة ولا من الأم معاسرة، وقيل: المعروف الكسوة والدثار وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ أي تضايقتم أي ضيّق بعضكم على الآخرة بالمشاحة في الأجرة أو طلب الزيادة أو نحو ذلك فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى أي فستوجد ولا تعوز مرضعة أخرى، وفيه على ما قيل: معاتبة للام لأنه كقولك لمن تستقضيه حاجة فتتعذر منه:
سيقضيها غيرك أي ستقضي وأنت ملوم.
وخص الأم بالمعاتبة على ما قال ابن المنير لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها وهو غير متمول ولا مضمون به في العرف وخصوصا من الأم على الولد، ولا كذلك المبذول من جهة الأب فإنه المال المضنون به عادة، فالأم إذن أجدر باللوم وأحق بالعتب، والكلام على معنى فليطلب له الأب مرضعة أخرى فيظهر الارتباط بين الشرط والجزاء، وقال بعض الأجلة: إن الكلام لا يخلو عن معاتبة الأب أيضا حيث أسقط في الجواب عن حيز شرف الخطاب مع الإشارة إلى أنه إذا ضايق الأم في الأجر فامتنعت من الإرضاع لذلك فلا بد من إرضاع امرأة أخرى، وهي أيضا تطلب الأجر في الأغلب والأم أشفق فهي به أولى، وبذلك يظهر كمال الارتباط، والأول أظهر فتدبر، وقيل:
فَسَتُرْضِعُ خبر بمعنى الأمر أي فلترضع، وليس بذاك، وهذا الحكم إذا قبل الرضيع ثدي أخرى أما إذا لم يقبل إلا ثدي أمه فقد قالوا: تجبر على الإرضاع بأجرة مثلها لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ أي ضيق عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ وإن قل، والمراد لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما يبلغه وسعه، والظاهر أن المأمور بالإنفاق الآباء، ومن هنا قال ابن العربي: هذه الآية أصل في وجوب النفقة على الأب، وخالف في ذلك محمد بن المواز فقال: بوجوبها على الأبوين على قدر الميراث، وحكى أبو معاذ أنه قرىء «لينفق» بلام كي ونصب القاف على أن التقدير شرعنا ذلك لينفق.