الجبائي- وليس بالبعيد- وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال الذي هو الداء العضال والرأس لكل خطيئة.
كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أي بستان بنشز من الأرض، والمراد تشبيه نفقة هؤلاء في الزكاء بهذه الجنة، واعتبر كونها في ربوة لأن أشجار الربى تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها وعدم كثافته بركوده.
وقرأ ابن عامر وعاصم بربوة بالفتح، والباقون بالضم، وابن عباس بالكسر، وقرىء «رباوة» وكلها لغات وقرئ:
«كمثل حبة» بالحاء والباء. أَصابَها وابِلٌ مطر شديد فَآتَتْ أي أعطت صاحبها أو الناس ونسبة الإيتاء إليها مجاز. أُكُلَها بالضم الشيء المأكول والمراد ثمرها وأضيف إليها لأنها محله أو سببه، وقرأ أبو عمرو وابن كثير.
ونافع بسكون الكاف تخفيفا. ضِعْفَيْنِ أي ضعفا بعد ضعف فالتثنية للتكثير، أو مثلي ما كانت تثمر في سائر الأوقات بسبب ما أصابها من الوابل، أو أربعة أمثاله بناء على الخلاف في أن الضعف هل هو المثل أو المثلان، وقيل:
المراد تأتي أكلها مرتين في سنة واحدة كما قيل في قوله تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ [إبراهيم: ٢٥] ونصبه على الحال من أكلها أي مضاعفا فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أي فيصيبها، أو فالذي يصيبها طل أو فطل يكفيها، والمراد أن خيرها لا يخلف على كل حال لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها والطل- الرذاذ من المطر وهو اللين منه.
وحاصل هذا التشبيه أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله تعالى لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت بحسب تفاوت ما يقارنها من الإخلاص والتعب وحب المال والإيصال إلى الأحوج التقي وغير ذلك، فهناك تشبيه حال النفقة النامية لابتغاء مرضاة الله تعالى الزاكية عن الأدناس لأنها للتثبيت الناشئ عن ينبوع الصدق والإخلاص بحال جنة نامية زاكية بسبب الربوة وأحد الأمرين الوابل، والطل، والجامع النمو المقرون بالزكاء على الوجه الأتم، وهذا من التشبيه المركب العقلي ولك أن تعتبر تشبيه حال أولئك عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل تلك الجنة فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله تعالى زاكية زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عند ربهم جل شأنه كذا قيل:- وهو محتمل- لأن يكون التشبيه حينئذ من المفرق- ويحتمل أن يكون من المركب- والكلام مساق للإرشاد إلى انتزاع وجه الشبه وطريق التركيب، والفرق إذ ذاك بأن الحال للنفقة في الأول وللمنفق في الثاني.
والحاصل أن حالهم في إنتاج القل والكثر منهم الأضعاف لاجورهم كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل الواصلين إليها الإضعاف لأثمارها، واختار بعضهم الأول، وأبى آخرون الثاني فافهم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازي كلّا من المخلص والمرائي بما هو أعلم به، ففي الجملة ترغيب للأوّل، وترهيب للثاني مع ما فيها من الإشارة إلى الحط على الأخير حيث قصد بعمله رؤية من لا تغنى رؤيته من لا تغنى رؤيته شيئا وترك وجه البصير الحقيقي الذي تغني وتفقر رؤيته عز شأنه.
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أي أيحب أحدكم، وكذلك قرأ عمر رضي الله عنه في رواية عنه والهمزة فيه للانكار أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ وقرئ جنات مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ أي كائنة من هذين الجنسين النفيسين على معنى أنهما الركن والأصل فيها لا على أن لا يكون فيها غيرهما، والنخيل- قيل: اسم جمع، وقيل: جمع نخل وهو اسم جنس جمعي، وأَعْنابٍ جمع عنبة ويقال عنباء فلا ينصرف لألف التأنيث الممدودة وحيث جاء في القرآن ذكر هذين الأمرين فإنما ينص على النخل دون ثمرتها وعلى ثمرة الكرم دون شجرتها ولعل ذلك- لأن النخلة كلها منافع- ونعمت العمات: هي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وأعظم منافع الكرم ثمرته دون سائره، وفي