للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تحقيقي يصار إليه لتهويل ما ارتكبوه من الجناية لكن لا مساغ لاعتباره من جهتهم ولا لإدراجه تحت عبارتهم. كيف لا وهو منوط بملاحظة اجتماع النذر على ما لا يختلف من الشرائع والأحكام باختلاف العصور والأعوام، وأين هم من ذلك وقد حال الجريض دون القريض؟ هذا إذا جعل ما ذكر حكاية عن كل واحد من الأفواج كما هو الظاهر. وأما إذا جعل حكاية عن الكل فالنذير إما بمعنى الجمع لأنه فعيل وهو يستوي فيه الواحد وغيره، أو مصدر مقدر بمضاف عام أي أهل نذير أو منعوت به للمبالغة فيتفق كلا طرفي الخطاب في الجمعية. ويستشعر من بعض العبارات جواز اعتبار الجمعية بأحد الأوجه المذكورة على الوجه الأول أيضا وفيه بحث. وجوز أن يكون الخطاب من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول على أن مرادهم بالضلال ما كانوا عليه في الدنيا أو هلاكهم أو عقاب ضلالهم تسمية له باسم سببه وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى. وكذا ما قيل من جواز كونه من كلام النذير للكفرة حكوه للخزنة وفي الكشف هذا الوجه فيه تكلف بيّن فإما أن يكون مقول قول محذوف يستدعيه قد جاءنا نذير كأنه قيل بلى قد جاءنا نذير قال إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ فكذبنا وقلنا وقدم فكذبنا وقلنا تنبيها على أن التكذيب لم يكن مقصورا على قولهم هذا وإما أن يكون التكذيب واقعا على الجملة أعني إِنْ أَنْتُمْ وقوله سبحانه وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ عطف على (كذبنا) قدم على صلته ليجري مجرى الاعتراض مؤكدا لحكم التكذيب ودالا على عدم القصر أيضا والأول أولى انتهى.

واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل البعثة وحمل النذير على ما في العقول من الأدلة مما لا يقبله منصف ذوي العقول وَقالُوا أيضا معترفين بأنهم لم يكونوا ممن يسمع أو يعقل كان الخزنة قالوا لهم في تضاعيف التوبيخ ألم تسمعوا آيات ربكم ولم تعقلوا معانيها فأجابوهم بقولهم لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ كلاما أَوْ نَعْقِلُ شيئا ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ أي في عدادهم ومن جملتهم والمراد بهم قيل الشياطين لقوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ وقيل الكفار مطلقا واختصاص اعداد السعير ممنوع لقوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً [الإنسان: ٤] . والآية لا تدل على الاختصاص وفيه دغدغة لعلك تعرفها مما يأتي إن شاء الله تعالى قريبا فلا تغفل. ونفيهم السماع والعقل لتنزيلهم ما عندهم منهما لعدم انتفاعهم به منزلة العدم، وفي ذلك مع اعتبار عموم المسموع والمعقول ما لا يخفى من المبالغة، واعتبرهما بعض الأجلة خاصين قال:

أي لو كنا نسمع كلام النذير فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتمادا على ما لاح من صدقه بالمعجز أو نعقل فنفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين ما كنا إلخ. وفيه إشارة إلى أن السماع والعقل هنا بمعنى القبول والتفكر وأَوْ للترديد لأنه يكفي انتفاء كل منهما لخلاصهم من السعير أو للتنويع فلا ينافي الجمع.

وقيل: أشير فيه إلى قسمي الإيمان التقليدي والتحقيقي أو إلى الأحكام التعبدية وغيرها، واستدل بالآية كما قال ابن السمعاني في القواطع من قال بتحكيم العقل. وأنت تعلم أن قصارى ما تشعر به أن العقل يرشد إلى العقائد الصحيحة التي بها النجاة من العسير، وأما أنها تدل على أن العقل حاكم كما يقول المعتزلة فلا. واستدل بها أيضا كما نقل عن ابن المنير على أن السمع أفضل من البصر ومن العجيب استدلال بعضهم بها على أنه لا يقال للكافر عاقل فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ الذي هو كفرهم وتكذيبهم بآيات الله تعالى ونذره عزّ وجلّ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ أي فبعدا لهم من رحمته تعالى وهو دعاء عليهم. وقرأ أبو جعفر والكسائي «فسحقا» بضم الحاء والسحق مطلقا البعد وانتصابه على أنه مصدر مؤكد أي سحقهم الله تعالى سحقا قال الشاعر:

يجول بأطراف البلاد مغربا ... وتسحقه ريح الصبا كل مسحق

<<  <  ج: ص:  >  >>