أخي يا أخي «لا فاحشا» عند بيته ... ولا برم عند اللقاء هيوب
والمراد بالأمر بذلك الإغراء والحث عليه ففي الكلام استعارة مصرحة تبعية، وقيل: المراد بالفحشاء سائر المعاصي وحملها على الزنا نعوذ بالله منه وجوز أن تكون بمعنى الكلمة السيئة فتكون هذه الجملة كالتأكيد للأولى وقدم وعد الشيطان على أمره لأنه بالوعد يحصل الاطمئنان إليه فإذا اطمأن إليه وخاف الفقر تسلط عليه بالأمر إذ فيه استعلاء على المأمور وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ في الإنفاق على لسان نبيكم صلى الله تعالى عليه وسلم مَغْفِرَةً لذنوبكم، وعن قتادة لفحشائكم، والتنوين فيها للتفخيم وكذا وصفها بقوله تعالى: مِنْهُ فهو مؤكد لفخامتها، وفيه تصريح بما علم ضمنا من الوعد كما علمت مبالغة في توهين أمر الشيطان وَفَضْلًا أي رزقا وخلفا- وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- فتكون المغفرة إشارة إلى منافع الآخرة، وهذا إشارة إلى منافع الدنيا.
وفي الحديث «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر:
اللهم أعط ممسكا تلفا»
وقدم منافع الآخرة لأنها أهم عند المصدق بها، وقيل: المغفرة والفضل كلاهما في الآخرة وتقديم الأول حينئذ لتقدم التخلية على التحلية ولكون رفع المفاسد أولى من جلب المصالح. وفي الآية فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران: ١٨٥] وحذف صفة الثاني لدلالة المذكور عليها وَاللَّهُ واسِعٌ بالرحمة والفضل عَلِيمٌ بما تنفقونه فيجازيكم عليه، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومثلها في قوله تعالى:
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله، وفي رواية عنه الفقه في القرآن، ومثله عن قتادة، والضحاك، وخلق كثير، وما روى ابن المنذر عن ابن عباس أنها النبوة يمكن أن يحمل على هذا لما
أخرج البيهقي عن أبي أمامة قال:«قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة ومن قرأ ثلثيه أعطي ثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله أعطي كل النبوة ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق بكل آية درجة حتى ينجز ما معه من القرآن فيقال له اقبض فيقبض فيقال له هل تدري ما في يديك؟ فإذا في يده اليمنى الخلد وفي الأخرى النعيم»
وليس المراد من القراءة في هذا الخبر مجردها إذ ذلك مما يشترك فيه البر والفاجر ولكن المراد قراءة بفقه ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء- الحكمة قراءة القرآن والفكرة فيه- وعن مجاهد أنها الإصابة في القول والعمل، وفي رواية عنه أنها القرآن والعلم والفقه، وفي أخرى العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته، وعن عطاء أنها المعرفة بالله تعالى، وقال أبو عثمان: هي نور يفرق به بين الوسواس والإلهام، وقيل: غير ذلك، وفي البحر أن فيها تسعة وعشرين قولا لأهل العلم قريب بعضها من بعض، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحا واقتصارا على ما رآه القائل فردا مهما من الحكمة وإلا فهي في الأصل مصدر من الأحكام وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها، وعن مقاتل أنها فسرت في القرآن بأربعة أوجه فتارة بمواعظ القرآن وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار ومرة بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة.
قيل: ولعل الأنسب بالمقام ما ينتظم الأحكام المبينة في تضاعيف الآية الكريمة من أحد الوجهين الأولين ومعنى إيتائها تبيينها والتوفيق للعمل بها أي تبيينها ويوفق للعلم والعمل بها مَنْ يَشاءُ من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعة فضله وإحاطة علمه كما آتاكم ما بينه في ضمن الآي من الحكم البالغة التي يدور عليها فلك منافعكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ بناه للمفعول إما لأن المقصود بيان فضيلة من نال الحكمة بقطع النظر عن الفاعل وإما لتعين الفاعل والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأن هذا المظهر ولهذا قدم من قبل على