كان جائزا لكنه غير ممدوح ولا مرضي فكيف دعا بذلك نوح عليه السلام عليهم مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من أجل خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا بالطوفان لا من أجل أمر آخر فمن تعليلية وما زائدة بين الجار والمجرور لتعظيم الخطايا في كونها من كبائر ما ينهى عنه ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة وجعل خَطِيئاتِهِمْ بدلا منها. وزعم ابن عطية أن (من) لابتداء الغاية وهو كما ترى. وقرأ أبو رجاء «خطياتهم» بإبدال الهمزة ياء وإدغامها في الياء. وقرأ الجحدري وعبيد عن أبي عمرو «خطيئتهم» على الإفراد مهموزا وقرأ الحسن وعيسى والأعرج بخلاف عنهم وأبو عمرو «خطاياهم» جمع تكسير وقرأ عبد الله «من خطيئاتهم ما أغرقوا» بزيادة «ما» بين خَطِيئاتِهِمْ وأُغْرِقُوا وخرج على أنها مصدرية أي بسبب خطيئاتهم إغراقهم وقرأ زيد بن علي «غرّقوا» بالتشديد بدل الهمزة وكلاهما للنقل فَأُدْخِلُوا ناراً هي نار البرزخ والمراد عذاب القبر ومن مات في ماء أو نار أو أكلته السباع أو الطير مثلا أصابه ما يصيب المقبور من العذاب وقال الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب وأنشد ابن الأنباري:
الخلق مجتمع طورا ومفترق ... والحادثان فنون ذات أطوار
لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت ... فالله يجمع بين الماء والنار
ويجوز أن يراد بها نار الآخرة والتعقيب على الأول ظاهر وهو على هذا لعدم الاعتداد بما بين الإغراق والإدخال فكأنه شبه تخلل ما لا يعتد به بعدم تخلل شيء أصلا، وجوز أن تكون فاء التعقيب مستعارة للسببية لأن المسبب كالمتعقب للسبب وإن تراخى عنه لفقد شرط أو وجود مانع وتنكير النار إما لتعظيمها وتهويلها أو لأنه عزّ وجلّ أعدّ لهم على حسب خطيئاتهم نوعا من النار ولا يخفى ما في أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً من الحسن الذي لا يجارى ولله تعالى در التنزيل فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً أي فلم يجد أحدهم واحدا من الأنصار وفيه تعريض لاتخاذهم آلهة من دونه سبحانه وتعالى وبأنها غير قادرة على نصرهم وتهكم بهم وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً عطف على نظيره السابق وقوله تعالى مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ إلخ اعتراض وسط بين دعائه عليه السلام للإيذان من أول الأمر بأن ما أصابهم من الإغراق والإحراق لم يصبهم إلّا لأجل خطيئاتهم التي عدها نوح عليه السلام وأشار إلى استحقاقهم للهلاك لأجلها لا أنه حكاية لنفس الإغراق والإحراق على طريقة حكاية ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأحوال والأقوال وإلّا لأخر عن حكاية دعائه هذا قاله مفتي الديار الرومية عليه الرحمة. وما قيل إنه عطف على لم يجدوا أو على جملة مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ إلخ وليس المراد حقيقة الدعاء بل التشفي وإظهار الرضا بما كان من هلاكهم بعيد غاية البعد والمعروف أن هذا الدعاء كان قبل هلاكهم والديار من الأسماء التي لا تستعمل إلّا في النفي العام يقال: ما بالدار ديار أو ديور كقيام وقيوم أي ما بها أحد وهو فيعال من الدار أو من الدور كأنه قيل لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ من يسكن دارا أو لا تذر عليها منهم من يدور ويتحرك وأصله ديوار اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وليس بفعال وإلّا لكان دوارا إذ لا داعي للقلب حينئذ ومِنَ الْكافِرِينَ حال منه ولو أخر كان صفة له والمراد بالكافرين قومه الذين دعاهم إلى الإيمان والطاعة فلم يجيبوا فإن كان الناس منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها نحو انتشارهم اليوم وكانت بعثته لبعض منهم كسكان جزيرة العرب ومن يقرب منهم فذاك وإن كانوا غير منتشرين كذلك بل كانوا في الجزيرة وقريبا منها فإن كانت البعثة لبعضهم أيضا فكذلك وإن كانت لكلهم فقد استشكل بأنه يلزم عموم البعثة وقد قالوا بأنه مخصوص بنبينا صلّى الله عليه وسلم وأجيب بأن ذلك العموم ليس كعموم بعثته صلّى الله عليه وسلم بل لانحصار أهل الأرض في قطعة منها فهو انحصار ضروري وليس عموما من