الشيطان قد يمس الرجل وأخلاطه مستعدة للفساد فتفسد ويحدث الجنون، وهذا لا ينافي ما ذكره الأطباء من أن ذلك من غلبة مرة السوداء وما ذكروه سبب قريب- وما تشير إليه الآية سبب بعيد- وليس بمطرد أيضا بل ولا منعكس فقد يحصل مس ولا يحصل جنون كما إذا كان المزاج قويا وقد يحصل جنون ولم يحصل مس كما إذا فسد المزاج من دون عروض أجنبي، والجنون الحاصل بالمس قد يقع أحيانا، وله عند أهله الحاذقين أمارات يعرفونه بها، وقد يدخل في بعض الأجساد على بعض الكيفيات ريح متعفن تعلقت به روح خبيثة تناسبه فيحدث الجنون أيضا على أتم وجه وربما استولى ذلك البخار على الحواس وعطلها، واستقلت تلك الروح الخبيثة بالتصرف فتتكلم وتبطش وتسعى بآلات ذلك الشخص الذي قامت به من غير شعور للشخص بشيء من ذلك أصلا، وهذا كالمشاهد المحسوس الذي يكاد يعد منكره مكابرا منكرا للمشاهدات.
وقال المعتزلة. والقفال من الشافعية: إن كون الصرع والجنون من الشيطان- باطل لأنه لا يقدر على ذلك كما قال تعالى حكاية عنه: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ [إبراهيم: ٢٢] الآية وما هنا وارد على ما يزعمه العرب ويعتقدونه من أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع وأن الجني يمسه فيختلط عقله وليس لذلك حقيقة- وليس بشيء بل هو من تخبط الشيطان بقائله ومن زعماته المردودة بقواطع الشرع
فقد ورد «ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا» وفي بعض الطرق «إلا طعن الشيطان في خاصرته»
ومن ذلك يستهل صارخا إلا مريم وابنها لقول أمها وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [آل عمران: ٣٦]
وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم:«كفوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشياطين»
وقد ورد في حديث المفقود الذي اختطفته الشياطين وردته في زمنه عليه الصلاة والسلام أنه حدث من شأنه معهم قال:«فجاءني طائر كأنه جمل قبعثري فاحتملني على خافية من خوافيه»
إلى غير ذلك من الآثار، وفي لقط المرجان في أحكام الجان كثير منها، واعتقاد السلف وأهل السنة أن ما دلت عليه أمور حقيقية واقعة كما أخبر الشرع عنها والتزام تأويلها كلها يستلزم خبطا طويلا لا يميل إليه إلا المعتزلة ومن حذا حذوهم وبذلك ونحوه خرجوا عن قواعد الشرع القويم فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، والآية التي ذكروها في معرض الاستدلال على مدعاهم لا تدل عليه إذ السلطان المنفي فيها إنما هو القهر والإلجاء إلى متابعته لا التعرض للإيذاء والتصدي لما يحصل بسببه الهلاك، ومن تتبع الأخبار النبوية وجد الكثير منها قاطعا بجواز وقوع ذلك من الشيطان بل وقوعه بالفعل،
وخبر «الطاعون من وخز أعدائكم الجن»
صريح في ذلك، وقد حمله بعض مشايخنا المتأخرين على نحو ما حملنا عليه مسألة التخبط والمس حيث قال: إن الهواء إذا تعفن تعفنا مخصوصا مستعدا للخلط والتكوين تنفرز منه وتنحاز أجزاء سمية باقية على هوائيتها أو منقلبة بأجزاء نارية محرقة فيتعلق بها روح خبيثة تناسبها في الشرارة وذلك نوع من الجن فإنها على ما عرف في الكلام أجسام حية لا ترى اما الغالب عليها الهوائية أو النارية ولها أنواع عقلاء وغير عقلاء تتوالد وتتكون فإذا نزل واحد منها طبعا، أو إرادة على شخص أو نفذ في منافذه، أو ضرب وطعن نفسه به يحصل فيه بحسب ما في ذلك الشر من القوة السمية وما في الشخص من الاستعداد للتأثر منه كما هو مقتضى الأسباب العادية في المسببات- ألم شديد مهلك غالبا مظهر للدماميل والبثرات في الأكثر بسبب إفساده للمزاج المستعد، وبهذا يحصل الجمع بين الأقوال في هذا الباب- وهو تحقيق حسن لم نجده لغيره كما لم نجد ما حققناه في شأن المس- لأحد سوانا فليحفظ.
والجار والمجرور متعلق بما قبله من الفعل المنفي بناء- على أن ما قبل إِلَّا يعمل فيما بعدها إذا كان ظرفا كما في الدر المصون أي لا يقومون من جهة المس الذي بهم بسبب- أكلهم الربا- أو- بيقوم- أو- يتخبطه-