للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عنه كأنه قيل لا نطعمهم واشتغل بالأهم من العبادة لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة وقيل: إن هذا يفيد ترهيب محب العاجل وترغيب محب الآجل والأول علة للنهي عن إطاعة الآثم والكفور والثاني علة للأمر بالعبادة نَحْنُ خَلَقْناهُمْ لا غيرنا وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق والأسر في الأصل الشد والربط وأطلق على ما يشد به ويربط كما هنا، وإرادة الأعصاب والعروق لشبهها بالحبال المربوط بها ووجه الشبه ظاهر ومن هنا قد يقول العارف من كان أسره من ذاته وسجنه دنياه في حياته فليشك مدة عمره وليتأسف على وجوده بأسره والمراد شدة الخلق وكونه موثقا حسنا.

ومنه فرس ما سور الخلق إذا كان موثقه حسنا. وعن مجاهد الأسر الشرج وفسر بمجرى الفضلة وشد ذلك جعله بحيث إذا خرج الأذى انقبض. ولا يخفى أن هذا داخل في شدة الخلق وكونه موثقا حسنا وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ أي أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في شدة الخلق تَبْدِيلًا بديعا لا ريب فيه يعني البعث والنشأة الأخرى فالتبديل في الصفات لأن المعاد هو المبتدأ ولكون الأمر محققا كائنا جيء بإذا وذكر المشيئة لإبهام وقته ومثله شائع كما يقول العظيم لمن يسأله الإنعام إذا شئت أحسن إليك ويجوز أن يكون المعنى وإذا شئنا أهلكناهم وبدلنا غيرهم ممن يطيع فالتبديل في الذوات وإذا التحقق قدرته تعالى عليه وتحقق ما يقتضيه من كفرهم المقتضي لاستئصالهم فجعل ذلك المقدور المهدد به كالمحقق وعبر عنه بما يعبر به عنه ولعله الذي أراده الزمخشري بما نقل عنه من قوله إنما جاز ذلك لأنه وعيد جيء به على سبيل المبالغة كان له وقتا معينا ولا يعترض عليه بقوله تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: ٣٨] لأن النكات لا يلزم اطرادها فافهم. والوجه الأول أوفق بسياق النظم الجليل إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ إشارة إلى السورة أو الآيات القرآنية فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي فمن شاء أن يتخذ إليه تعالى سبيلا أي وسيلة توصله إلى ثوابه اتخذه أي تقرب إليه بالطاعة فهو توصل أيضا السبيل للمقاصد وَما تَشاؤُنَ أي شيئا أو اتخاذ السبيل إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلّا وقت مشيئة الله تعالى لمشيئتكم. وقال الزمخشري: أي وَما تَشاؤُنَ الطاعة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ تعالى قسركم عليها وهو تحريف للآية بلا دليل، ويلزمه على ما في الانتصاف أن مشيئة العبد لا يوجد إلّا إذا انتفت وهو عن مذهب الاعتزال بمعزل وأبعد منزل. والظاهر ما قررنا لأن المفعول المحذوف هو المذكور أولا كما تقول: لو شئت لقتلت زيدا أي لو شئت القتل لا لو شئت زيدا ولا يمكن للمعتزلة أن ينازعوا أهل الحق- في ذلك لأن المشيئة ليست من الأفعال الاختيارية وإلّا لتسلسلت بل الفعل المقرون بها منها فدعوى استقلال العبد مكابرة وكذلك دعوى الجبر المطلق مهاترة والأمر بين الأمرين لإثبات المشيئتين وحاصله على ما حققه الكوراني أن العبد مختار في أفعاله وغير مختار في اختياره والثواب والعقاب لحسن الاستعداد النفس الأمري وسوئه فكل يعمل على شاكلته وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وفي التفسير الكبير هذه الآية من الآيات التي تلاطمت فيها أمواج القدر والجبر فالقدري يتمسك بالجملة الأولى ويقول إن مفادها كون مشيئة العبد مستلزمة للفعل وهو مذهبي والجبري يتمسك بضم الجملة الثانية ويقول إن مفادها أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد فيتحصل من الجملتين أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد وأن مشيئة العبد مستلزمة لفعل العبد كما تؤذن به الشرطية فإذن مشيئة الله تعالى مستلزمة لفعل العبد لأن مستلزم المستلزم مستلزم وذلك هو الجبر وهو صريح مذهبي وتعقب بأن هذا ليس بالجبر المحض المسلوب معه الاختيار بالكلية بل يرجع أيضا إلى أمر بين أمرين وقدر بعض الأجلة مفعول يَشاءَ الاتخاذ والتحصيل ردا للكلام على الصدر. فقال: إن قوله سبحانه وَما تَشاؤُنَ إلخ تحقيق للحق ببيان أن مجرد مشيئتهم غير كافية في

<<  <  ج: ص:  >  >>